شعار قسم مدونات

لهذا أكره خارطتنا العربية!

blogs جامعة الدول العربية

"يُفضل الغرب على غرار إسرائيل شرقَ أوسطٍ متشرذمٍ ومتصارعٍ، لذا تُحارب هذه القوى على عدة جبهات ضد نزعات العروبة والإسلامية المتشددة.. ولهذا يمكننا التقدير أن الغرب لن يُحاول أن يقف حجر عثرة في طريق عمليات التقسيم القائمة في المنطقة، بل سيساهم في ذلك" بهذه الرؤية كتب رئيس تحرير صحيفة هارتس الإسرائيلية (ألوف بن) مقالًا في (2011/3/25) بعنوان (تحذير: الشرق الأوسط في مرحلة الإعمار)، فماذا قبل هذا الإعمار في الشرق الأوسط؟!

   

حين كنّا ندرس في المرحلة الابتدائية قصيدة (فخري البارودي): "بلادُ العُربِ أوطاني" كنّا نُنصت لشرح هذه القصيدة من معلم اللغة العربية بوصفه الحماسي لوحدة بلادنا بتلك الكلمات، لكن وبعد انتهاء الدرس نعود لخارطتنا المتنوعة الجنسيات بين زملائنا، لنلحظ فروقات كبيرة بيننا تؤزنا للعنصرية أزَّا.. إذًا ماذا عن بلاد العرب أوطاني؟!.. للأسف ليست سوى حبر على ورق مناهجنا الدراسية!.. ولا تعدو كونها مادة يجب أن نستوعبها للاختبار فيها وحسب.. و ببعض التفاؤل؛ ربما كانت تلك القصائد تُضيف وعيًا بسيطًا بأننا على الأقل متَّحدين في لغتنا وثقافتنا التي شابها كثير من التحريف على إثر الاستعمار الغربي لمعظم الوطن العربي.

 

الحقيقة أنه وبعد مرور الزمن اتضحت معالم هذه الوحدة العربية أنها ما كانت إلا شعارًا للمرحلة التي لحقت معاهدة (مارك سايكس) الممثل البريطاني، و(جورج بيكو) الممثل الفرنسي عام (1916) والتي مزَّقت المشرق العربي وسلَّمت فلسطين للإدارة الدولية كخطوة أُولى تبعتها بعد ذلك بعام واحد فقط تاليتها "وعد بلفور" الذي وفَّى بوعده. تُرى هل اكتفوا بهذا التقسيم؟!

 

خطوة "القومية العربية" تنسحب رويدًا رويدا لخطوة "الإقليمية".. فشهدنا تقسيم السودان.. ونشهد مطالبة الأكراد في العراق وسوريا بدولة كُردية

في كتاب "خارطة الدم" لمؤلفه (د.وليد الهويريني) والذي صدر عام (2014) يستعرض الكاتب مجمل عمليات التقسيم بعد إعلان انتهاء الدولة العثمانية على يد أتاتورك عام (1924)، ويذكر الكاتب الوثائق المهمة التي شكلت الخارطة العربية ومنها "وثيقة كامبل" السرية التي انبثقت عن المؤتمر الذي دعى له حزب المحافظين البريطانيين، والذي عُقد في (لندن) عام (1905) بهدف إيجاد آلية تحافظ على مكاسب الدول الاستعمارية في ذلك الوقت، ويقول في الهامش: "الوثيقة بقيت حبيسة الأرشيف البريطاني، ولم يُفرج عنها سوى مدة أسبوعين فقط، ليعاد سحبها، لكن بعض الباحثين تحدث عنها ومنهم: (محمد حسنين هيكل) في كتابه (المفاوضات السرية وإسرائيل)" على كُلٍ فقد كان أبرز ما جاء في توصيات ذلك المؤتمر هو "إبقاء شعوب المشرق العربي مفككة جاهلة ومتأخرة"

 

وما حال منطقتنا العربية الآن بأبعد من هذه التوصيات، يستعرض الكاتب أبرز الدراسات الغربية التي حِيكت لنا دون أن تعي الشعوب ذلك.. فالعالم الغربي سعى لكل ما نحن فيه منذ أمد بعيد.. بل ويذكر أبرز التصريحات العلنية لدبلوماسيين غربيين تدعم كل تلك الخطط دعمًا لا يخفى على عاقل.. ويربط الكاتب أيضا بين تلك المؤلفات والدراسات التي وضعت في هذا التقسيم وبين تلك التصريحات ربطًا يجعلك تُصاب بالصدمة من هذا التوافق الكبير.

 

ثم يستدعي بعض المصطلحات التي طُرحت في بداية الألفية ومنها "الفوضى الخلَّاقة" التي وردت على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندليزا رايس) عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم يحدد المراحل المتتابعة لعملية هذه الفوضى الخلاقة. ويُلخص الهويريني أدوات الهيمنة الغربية في ظل نظرية "المركز والأطراف" ويبرهن لها من خلال الواقع المعاصر الذي يصفه فيقول: "المقطوع به أن العالم العربي يُعتبر في ضوء هذه النظرية من دول الأطراف أو الهامش"

 

وهل نحن إلا دول تعيش على هامش التاريخ الآن؟! يُبين الكاتب دواعي ثورات الربيع العربي، ثم يحدد أسباب فشلها ونتائجها في الدمار الذي لحق بدول مثل سوريا وليبيا، ثم يوضح كيفية تدخل الإدارة الأمريكية في توجيه تلك الثورات بما يتناسب مع رؤيتها "الديموقراطية" تجاه الوطن العربي.. فحتى تلك الصناديق التي وضعت "الإخوان المسلمين" على رأس هرم السلطة في مصر لم تتناسب مع ديموقراطيتهم؛ فغضُّوا الطرف عن الانقلاب وما تبعه من فض الاعتصامات في ميدان رابعة والنهضة والتي وصفتها منظمة (هيومن رايتس ووتش) أنها: "أكبر مجزرة غير قانونية في التاريخ المصري الحديث"

 

بشكل موضوعي لم ينحاز الكاتب لنظرية المؤامرة، على الرغم من أنه حقق وجودها، لكنه وبنفس ذلك التحقيق يشرح المعطيات الواقعية التي تقول إن ما يحدث هو من فعل أنفسنا في الآن نفسه، وهو كذلك إذ لم تكن شعارات الوحدة العربية التي بدأت مع ضعف الدولة العثمانية إلا من شعور بالانهزامية، ووعد غربي بالاستقلال عن تلك الدولة التي ضعفت.. لكنها ما كانت إلا خطوة أُولى نحو التقسيم والتمزيق؛ فهذه الخارطة العربية بهذه الأسماء ما وُضعت إلا بمصلحة غربية تضمن لهم نهب ثرواتها.. وما زال النَّهب على أشدِّه حتى الساعة.

 

نحن الآن في مرحلة حرب، ولكنها "حرب أفكار" فحتى كل هذا التمزيق، لا يُريد لنا المتصهينون العرب أن نعرف عنه ولا أن نذكره

لكن هل سيبقى الحال على ما هو عليه؟ الواقع يقول لا؛ فخطوة "القومية العربية" تنسحب رويدًا رويدا لخطوة "الإقليمية".. فشهدنا تقسيم السودان.. ونشهد مطالبة الأكراد في العراق وسوريا بدولة كُردية.. ناهيك عن الانقسام المجتمعي والطائفي الذي يُشكِّل خطورة كبيرة على وحدة سوريا والعراق، وبالأمس سيطرت قوات الحزام الأمني الداعية لانفصال جنوب اليمن عن شماله والمدعومة إماراتيًّا على مدينة (عدن) الجنوبية، ونلحظ هذه الحرب القائمة في ليبيا أيضًا.. ولم تعد الأمور في السعودية الكبرى سياسيًّا كما كانت عليه. وربيبة (أمريكا) وطفلتها المدللة في المنطقة (إسرائيل) على وشك إعلان صفقتها الاحتلالية الكاملة بدعم بات واضحًا بشكل مخزي من دول عربية.

 

يختم الكاتب كتابه بكلمات (د. سفر الحوالي) في خطابه الموجه للرئيس الأمريكي (جورج بوش) فيقول: "سوف أذكركم بعيب خطير فينا نحن المسلمين؛ وهو أننا لا ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن ، تصوّر -أيها الرئيس ـ أننا لا زلنا نبكي على الأندلس ونتذكر ما فعله فريدناند وإيزابيلا بديننا وبحضارتنا وكرامتنا فيها! ونحلم باستردادها مرة أخرى، ولن ننسى تدمير بغداد ولا سقوط القدس بيد أجدادك الصليبيين؟ أي: أننا لسنا في نظركم بالقدر من الحضارة الذي يتمتع به الألمان واليابانيون الذين يؤيدونكم على هذا العدوان متناسين ماضيكم معهم . وأشد من ذلك أن الأفريقي من المسلمين الذي أسلم بعد سقوط الأندلس يبكي مع العرب، مثلما يبكي الجاوي الذي لم يسمع عن الأندلس إلا قريبًا"

 

نحن الآن في مرحلة حرب، ولكنها "حرب أفكار" فحتى كل هذا التمزيق، لا يُريد لنا المتصهينون العرب أن نعرف عنه ولا أن نذكره؛ فكاتب الكتاب، ومُرسلُ الخطاب وغيرهما الكثير يقبعون الآن في سجون الظلم والظلامِ لأنهم كتبوا وأرادوا لنا أن نعرف ما الذي يحدث.. ولأن ساجنهم يُريد لنا البقاء في ظلمة الوعي.. كي يمارس حربه التغريبية على مجتمعاتنا كما يُريدها أسياده وبالشكل الذي يرضيهم.

 

لهذا أكره الخارطة العربية؛ لأنها وُضعت أصلا بالدماء.. ليس ذلك وحسب، بل نحن مُقدمون على خارطة دموية جديدة تُفرِّق بيننا بشكل أكبر، كما فرقت قبل ذلك إن لم نعِ من يُريد هذا، ومن يخدم كل هذا، فقد نكون نحن أول من يخدم هذا التمزيق؛ بتلك الغفلة الفكرية التي تورث الأجيال قصيدةً جديدةً عنوانها: "بلادُ الدَّمِّ أوطاني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.