شعار قسم مدونات

بحيرة البطة المنخفضة.. تجربتي في أكبر قرية رقمية بالعالم

blogs هاتف

في الأول من آب، قرأتُ مقالة على موقع "the verge"، تتحدث عن قرية رقمية خاصة بناها شخصِ يستخدم الاسم المستعار "devuluh" داخل تطبيق "reddit". انبثقت القرية عن مجموعة “have we met”  ويُطلق عليها اسم بحيرة البطة المنخفضة “lower duck pond”، والتي بات عدد سكانها حالياً 85 ألف نسمة افتراضية، يطلق عليهم صفة مواطنين وأنا واحدة منهم. كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها مقالاً عن تطبيق فأسارع إلى تحميله على هاتفي الممل. كنت بأمس الحاجة إلى الخروج من دوامة إصابة والدتي بالسرطان، الذي فرض عليّ عزلة كانت سبباً مباشراً أدخلني إلى تطبيق "reddit" كي أرفه عن نفسي، لأجد لاحقاً أني صرت مواطنة في قرية رقميّة غريبة الأطوار.

     

حمّلت تطبيق "reddit" وبحثت عن المجموعة قرر المنتسبون إليها منحها اسم قرية. اكتشفت بدهشة أن بحيرة البطة المنخفضة عبارة عن قرية بالفعل، انتميت إليها دون أن أمنح نفسي بضع دقائق لقراءة شروط الانتساب. في جولتي الأولى صادفت منشوراً كتبه مواطن في القرية قال فيه "اليوم، عند الساعة الثانية بعد الظهر، سأقوم رسميًا بقص شريط افتتاح حديقة الحيوان الجديدة! اسمها "هل التقينا". اليوم يمكنكم التجول بشكل مجاني في الحديقة. ولاحقاً سيكون لكل شخص موجود في القرية الحصول على عضوية سنوية بنصف السعر، آمل أن نستمتع".

 

علق على المنشور "مواطن" آخر قائلاً: "رائع! حديقة الحيوانات ستكون رصيدا مهمًا لمجتمعنا! سأحضر الافتتاح الكبير"، وسأل مواطن ثان "هل لدى حديقة الحيوان أي مصلحة في شراء الضفادع الغريبة؟ لدي الكثير من الضفادع الغريبة التي يمكنني بيعها لكم". وذهبت الردود إلى حدودٍ أبعد فعلق مواطن ثالث "لا أستطيع الانتظار! هل يمكنني التقاط صور سيلفي مع وحيد القرن؟" ليجيبه مؤسس الحديقة "بكل تأكيد لدينا مدرب خاص لوحيد القرن".

 

قد يظن البعض أن حديقة الحيوان التي تحدث عنها المستخدم، حقيقية. ولكن مع الآسف، الحديقة غير موجودة وليست حقيقية. في الواقع لا يوجد أي حديقة تحمل اسم "هل التقينا" ولا يوجد مدرب خاص لوحيد القرن. كل ما جاء حول افتتاح الحديقة وبقية التفاصيل هي منشور محض خيالٍ يشارك في نسجه جميع المنتمين إلى قرية بحيرة البطة المنخفضة والذين قرروا أيضاً التظاهر بمعرفة بعضهم البعض.

 

على الرغم من هشاشة بحيّرة البطة المنخفضة، إلا أنها حقاً جميلة ومختلفة عن المجموعات المنتشرة في تطبيقات لا تفعل شيئاً سوى أنها تسحبنا إلى دوامة لا متناهية من الفوضى

ثمة تشابه كبير بين بحيرة البطة المنخفضة الرقمية، وأية قرية واقعية. فمن ثقافة القرى، أن يعرف الجميع بعضهم بعض. جميع أبناء القرى يدركون تفاصيل حياة مواطنيهم. يمارسون النميمة ويثرثرون. وعلى عكس أبناء المدن المهملين لأدوارهم الاجتماعية، يلعب أبناء القرى أدوارهم الاجتماعية بشكل يمنح القرية استقرارها وأمانها. وهو حال قريتنا الرقمية. ثمة لعبة يلعبها الجميع تبدأ حين يرمي أحد المواطنين منشوراً بسيطاً يقول فيه على سبيل المثال "لا تذهبوا إلى محل العصير في القرية، ليس لديه قطع نقود صغيرة ليردها إلى الزبائن، لقد قصدته اليوم وكانت التجربة سيئة جداً"، فيجيب آخر "لا بأس عزيزي، لديَّ شجرة ليمون، سأدعوك قريباً كي نشرب العصير الطازج"، فيرد كاتب المنشور "شكراً جزيلاً. سأزورك مساءً".

 

منشور كهذا على سذاجته، استقطب تعليقات كثيرة حولته من مجرد وهم إلى رواية جماعية يشارك العشرات بنسج تفاصيلها. قيمة منشورات القرية الرقمية، أنها عالم خيالي قائم بحد ذاته. يكتسب هذا العالم المنسوج من الوهم متانته مع كل تعليق جديد يضيف تفصيلاً جديداً على رواية المنشور.

  

وعلى الرغم من هشاشة بحيّرة البطة المنخفضة، إلا أنها حقاً جميلة ومختلفة عن المجموعات المنتشرة في تطبيقات لا تفعل شيئاً سوى أنها تسحبنا إلى دوامة لا متناهية من الفوضى، ذلك أن كل منشور في القرية الرقمية يؤسس فضاءً تتمظهر فيه آلية كتابة الرواية. إذ بإمكان أي شخص ينتسب إليها، تقمص الشخصية التي يريدها، من الشرطي واللحام وحارس المتجر والطبيب إلى اللص والمجرم وهناك من شطح في خياله فأنتمى إلى القرية بشخصية عصفور أو سنجاب.

  

تبني القرية فسحة حقيقية تخوّل أي شخص يريد تطوير أسلوبه الروائي، الولوج إليها فهي عالم فيه سيناريوهات وهمية تستحق أن تتحول إلى أفلام كوميدية وتراجيدية كقصة العم ويليام المفقود منذ ستة أشهر والذي، بحسب شهادة أحد المواطنين، شوهد آخر مرة قرب محطة وقود.

 

السؤال الأهم الذي يطرح نفسه تلقائيًا إزاء تجربة من هذا النوع هو: إلى أية درجة تلاشى الفارق بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي

ينطوي إسباغ صفة قرية على تجمع رقمي افتراضي على مجازفة كبيرة، لكنه ليس أمراً مزعجاً، ففي قرية بحرية البط المنخفضة يتشكل إحساس قوي وغريب بالانتماء إلى مكان رقمي مجهول لكنه دافئ بعض الشيء، هكذا أشعر تجاهه، ما يجعل القرية الرقمية، ظاهرة حقيقية، يمكن دراستها وأخذها على محمل الجد. فهذه القرية بما تحويه من مواطنين دخلت حياتي وأحدثت ثورة.

 

امضي يومياً بضع ساعات وأنا أراقب التعليقات وكيفية تطور الروايات وتشكّلها. ورغم دخولي العالم الافتراضي منذ خمسة سنوات وعملي المهني ومتابعتي الشخصية للإنترنت وغرقي في متابعة الأخبار التكنولوجية إلا أني لا امتلك حساباً على انستغرام ولا تويتر ولم أجرب يوماً تطبيق سناب شات، وأدرك بقرارة نفسي أن لدي واجهة مستخدم بدائية جدًا ويشكو أصدقائي من ندرة استجابتي على رسائل وتس آب. ولكن تجربتي بالصدفة مع reddit كانت مختلفة، إلى حد قراري أن أصير مواطنة افتراضية في قرية من نسج الخيال أعيش فيها الآن.

   

لست أعلم متى أقرر التخلي عن جنسيتي الجديدة وأرحل عن البحيّرة، ولكن كل ما أعرفه أني لن أخرج من reddit دون أن أفهم الآلية النفسية التي سمحت لمثل هكذا قرية بالنشوء والكيفية التي منحت تجمعًا رقميًا بهذا الحجم مصداقية انتماء مقنعة وجذابة، ومنحته سمات دولة، تمتلك مؤثرات عاطفية ليس من المبالغة النظر إليها كخطوة بدائية نحو قيام ظاهرة فيها نوع جديد من المجتمعات مكللة بالعصبيات رقمية.

  

أما السؤال الأهم الذي يطرح نفسه تلقائيًا إزاء تجربة من هذا النوع هو: إلى أية درجة تلاشى الفارق بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي. ويزداد السؤال الحاحًا، في كل مرة تبدو بها حالتنا التكنولوجية مجنونة للغاية. فمن يعلم متى تنقلب لعبة الروايات إلى عالم رقمي حقيقي قائم على الولاء العصبي لكيان افتراضي. هنا علينا فقط أن نتذكر، تفاصيل صغيرة. أولاً، القرية تحوي على 85 ألف مستخدم يصفون أنفسهم بالمواطنين. ثانياً، لديها رئيس يدعى ديفولو. ثالثاً، الجميع يتصرف كما لو أنهم يعرفون بعضهم البعض. وأخيراً فلنتذكر، أن القرية تخضع لحزمة من القوانين الصارمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.