شعار قسم مدونات

تشرنوبل.. حقيقة السباق نحو التسلح

blogs تشيرنوبل

تشيرنوبيل، مسلسلٌ بدا لي في البداية مسلسلاً عادياً بشخصيات تؤدّي أدواراً تدرّبت عليها منذ مدة ليست بالقصيرة، لأنّني لم أكن مصمما على مشاهدته إلّا بعد أن رأيتُ تلك الآراء المُتضاربة حوله في الشبكة العنكبية، وما زاد الطين بلّة هو تقييمهُ الذي اقترب من 10/10. لكن ما إنْ شاهدت نصف الحلقة الأولى، حتى اكتشفتُ أمراً مريباً. درستُ تاريخ الاتحاد السوفياتي؛ واطلعت على جلِّ أطواره، وعرفت أسباب انهياره، وكيف شكّل عدواً لدوداً لأمريكا في فترةٍ عرفت سباقاً نحو التسلُّح أصاب العالم بالجزع.

 

ما فتئ المثقفون في جل أرجاء العالم ينددون بهذا السباق، رفضوه رفضاً قاطعاً لأنّه يشكل تهديداً حقيقياً للبشرية، وكانوا على وشكِ مشاهدة حربٍ أخرى، كانت شرارتها ستندلع في عدة احتدامات، أبرزها الذي وقع في كوبا سنة 1962، وتعد ملحمةُ كوبا من أقرب الملحمات التي كادت أن تؤدّي لقيام حربٍ نووية ستلتهم الأخضر واليابس، وتسمى بأزمة الصواريخ الكوبيّة.

  

السباق نحو التسلُّح شكّل خطراً يحيط بالبشريّة برمّتها كما يُحيطُ السوار بالمعصم، باعتبار أنّ جرحين غائرين لما يندملا بعد، جرح الحربين العالميّتين الأولى والثانية. الولايات المتحدة الأمريكية كانت دولةً متغطرسة، تحشرُ أنفها في كل مشاكل العالم، وهذا لازال قائما لحدود الساعة، ويبدو بشكلٍ جليٍّ.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تتشكل بوادر الحرب الباردة سنة 1947، والسبب هو التناقض بين الرأسمالية القائمة على مبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والاشتراكية القائمة على تأميم وسائل الإنتاج، ثم القطيعة السياسية والاقتصادية؛ تصدي الولايات المتحدة الأمريكية للمدِّ الشيوعي في أوروبا من خلال مشروع مارشال، في المقابل نجد انضمام الاتحاد السوفياتي لمنظمة الكوميكون وتأسيس الكومينفورم. فبدأت تتصاعد هذه الحرب شيئاً فشيئاً.

   

  

احتلّت الولايات المتحدة الأمريكية كوريا الجنوبية، فيما احتلّ الاتِّحاد السوفياتي كوريا الشمالية لتصبح اشتراكية وشيوعية. في الاقتصاد كانت هناك معركة ضارية، الاتحاد السوفياتي كان يمثل التوجه الاشتراكي، في حين أنّ أمريكا كانت تمثّل التيار الرأسمالي. هذه الحرب رآها العالم عند احتلال الكوريتين، ثم غزو الفيتنام من طرف أمريكا إلى حين أن تحرّرت بعد مقاومة نالت عليها الفيتنام وافر الثناء سنة 1975، والصراع حول كوبا؛ وتنامي الاحتدام في الألمانيتين الغربية والشرقية قبل توحدهما (أزمة برلين الأولى بين سنتي 1948-1949).

 

إنّ محطة تشيرنوبيل النّووية التي انفجرت في أبريل / نيسان عام 1986، كانت لحظةً فاصلة في تاريخ البشرية. بعد انفجارها كان الإشعاع قد خرّب حياة الآلاف، وسرقهم الموت عنوةً، بعد تشوُّهاتٍ تدمي القلب، ثم تضاعف عدد المصابين بالأمراض المستعصية أعداداً مُضاعفة. واجه الاتحاد السوفياتي حينها مشكلاً كبيراً، صارت الإشعاعات النووية التي خلفها الانفجار منتشرة في الهواء الطّلق، وبالتالي صار أمر العيش هناك مستحيلا، وهو ما دفع مسؤولي الاتحاد إلى إخلاء المنطقة التي تتواجد فيها محطة تشيرنوبيل التي تعد كارثة عظمى هددت حياة البشرية. العلماء الذين واكبوا مظاهر الانفجار ومخلّفاته لم يجدوا حلاًّ للسيطرة على الانفجار.

 

التّقانة والشّبكة العنكبوتية تشكّلان منعطفاً حاسماً في تاريخ البشرية، ثم التطور التكنولوجي وصناعة الأسلحة التي غزت العالم؛ إيجابياتها عديدة ومتعددة يصعبُ إحصاؤها، بيد أنّ سلبياتها تتجسد فيما نعانيه في الوقت الرّاهن من أمراض جلدية، واكتساح السرطان والأوبئة للأجساد البشرية، وخير مثال هو محطة تشيرنوبيل التي حوّلت حياة السوفييت إلى كابوس.

 

يقال أن روسيا بعد أن تفكك الاتحاد، وتلاشت دويلاته الصغيرة، خصصت ما يناهز المليارين دولار، وشيّدت حصناً لهذه المحطة سيدوم لـ 100 سنة، ولم يتم الانتهاء من تشييده إلا في سنة 2017، كما أن عدة فيديوهات صُوِّرت في وقتٍ ما توثّقُ ملابس الإطفائيين الذين حاولوا جاهدين إخماد النيران بعد الحادثة وهي لازالت تُشكل خطراً على الناس جرّاء ذلك الإشعاع العالق فيها ولازالت مرمية في قبو بمستشفى "برابيت" لأنها تشكل خطراً إلى يومنا هذا.

 

ربّما لم أكن أعلم بأمر تشيرنوبيل، قبل مشاهدة المسلسل، لسببٍ أجهله، لكن العالم كله يعرف القنبلة التي ألقتها أمريكا على ناكازاكي وهيروشيما سنة 1945م باليابان. التي تعتبر حدثاً فارقاً، حيث شكلت لبنة أساسية للدولة الساعية للحصول على الأسلحة المتطورة كالقنبلة النووية والهيدروجينية، ففي هذين المدينتين اللتين لا زالتا تعاني من ويلات تلك القنبلة التي خلفت جثتا هامدة ومنازل آيلة للسقوط وأراضٍ زراعية لازالت تكافح حتى تعاد الحياة فيها من جديد، والسبب هو تلك المفاعلات التي ظلت ولاتزال عالقة في جوف الأرض، ولا أحد يعلم متى ستدبُّ الحياة في تلك الأراضي من جديد.

   undefined

  

يعدُّ الاتحاد السوفيتي لحظةً فارقة في تاريخ أوروبا، لأنّه أنجب كيانات اقتصادية هامّة، وشيد ترسانات عسكرية كانَ لها أثر فعّال. سقط الاتحاد السوفياتي لعدة أسباب، ومن أبرزها: الانقلاب الذي كُلِّلَ بالفشل سنة 1991م حيث كان له دور كبير في الإجهاز على الاتحاد حيث أفضى إلى تقسيم حاد ومُربك في القواعد العسكرية، ثم تدهور البنية الاقتصادية وإهمال الإصلاح الاقتصادي، وتمّ حل الحزب الشيوعي. سقوطهُ الفعلي كان في 25 ديسمبر سنة 1991م.

 

سنة 2006 كتب الرئيس المحنّك ميخائيل غورباتشوف الذي تولّى زعامة الاتحاد السوفيتي سنة 1985، أي سنة قبل حدوث كارثة تشيرنوبيل، جملةً لا يمكنُ التغاضي عنها بأيّ وجهٍ من الوجوه: "لعل الانهيار النووي في تشيرنوبيل كان سبب انهيار الاتحاد السوفيتي الجقيقي". قد لا يختلف اثنان حول هذه المسألة، باعتبار غورباتشوف قد عاصر مراحل تشييد تشيرنوبيل إلى انفجارها وتفتُّتها، وبالتالي ما قاله لا يمكنُ تكذيبه، رغم أنّ مسلسل تشيرنوبيل أوضح مجموعة من الحقائق التي أُخفيت عن قصد، لاسيما فاليري ليغاسوف الذي انتحر سنة 1988م بسبب الأكاذيب الخاطئة التي روّجها، وفي أعقاب موته اعترف الكل بعيوب التصميم في المفاعلات النووية، فتسجيلاته الصوتية التي عُمِّمت هي التي دفعت المسؤولين في الاتحاد إلى الاعتراف، لكن رغم اعترافهم، إلّا أن الموعد قد فات والوصمةُ باقيّة.

 

مسلسل تشيرنوبيل الذي يتكوّن من خمس حلقات ممتعة، لقيّت إجماعاً من طرف من شاهدوه وتمعنوا فيه بأنها مبهرة. هو فعلاً مسلسل يستحق المشاهدة، هذه حقيقة دون مواربة. لكن ما يحزّ في نفسي هي تلك المشاهد المفزعة التي تدمع لها العين. هنا يطرح السؤال حول الصراع القائم حاليا بين الدول المتقدمة عسكرياً من أجل التسلح؟ ثم السجال الذي يلاحق كوريا الشمالية وإيران باعتبارهما دولتين تطمحان إلى التحكم في العالم بواسطة الأسلحة والصواريخ النووية والقنابل الهيدروجينية. لو اندلعت شرارةُ حربٍ جديدة فلن يكون هناك مستقبل مشرق، بل سيكون مستقبل تغزوه الأمراض الفتّاكة، وكذا تحول الأراضي الزراعية إلى أراضٍ جرداء تصعب الحياة فيها.

 

حاولت ربط ما شاهدته في الفيلم بالسياق التاريخي الذي عاشه الاتحاد السوفيتي في صراعه المحتدم مع الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنّ هذا الصراع حاول الكثيرون تلطيفه بجملة "الحرب الباردة"، لكن هذا خطأ، فالحربُ الباردة لا تخرب الكيانات الجغرافية المستقلِّة وتهدم اقتصادها وتسعى إلى تشرذم أوساطها الاجتماعية، ولا يكون مطمحها وضع قبضتها على الأسلحة المتطورة من أجل ترهيب العالم وإخافته والتحكم في مجرياته دون الاكتراث لمُستقبل البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.