شعار قسم مدونات

الجواهري.. المتمرد السياسي

blogs الجواهري

تبا لدولة عاجزين توهموا أن الحكومة بالسياط تدام
وإذا تفجرت الصدور بغيظها حنقا كما تتفجر الألغام

محمد مهدي الجواهري

  

شعر يرعش قلب الحاكم ويزرع بين شرايينه الخوف والرهبة. في نفس الآن، يدهش المحكومين، ويدب في القلب شعلة الثورة والانتفاضة الملتهبة على الظلم والظالم. لم يكن المسرح العربي وهو في بداياته أواسط القرن قبل الماضي قادرا على إشعال هذه الشعلة، ولا الرواية التي لم يعرفها العرب إلا في بدايات القرن الفائت، باستطاعتها تحريك الجمهور، ولا حتى سيميائية الصورة السينمائية قوية التأثير. بل وحده شعر الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري مكن من ذلك. مرسخا تجربة شعرية سياسية منفردة بلا خوف ولا وجل. مغايرة لتجارب الشعراء المعاصرين له، الذين صبوا جل اهتمامهم نحو عوالم شعرية أخرى جديدة.
 
كان من الممكن ان يتهاوى قريض الجواهري لو استمر في تجربته الأولى في عشرينيات القرن العشرين، التي لم تخرج من خانة شعر اللذة واللهو والخمرة، ومخاطبة المحبوبة. بيد أنه استنهض بشعره، مستجلبا شعرا محرضا على الثورة والمقاومة والمجافاة، محاربا الجور والاعتداء على أبناء الوطن دون حق. في هذا الزمن، لم يكن يجابه الجواهري في هذا النوع من الشعر الملتزم بالقضايا السياسية أحد، حتى أن معاصريه كنوا له تبجيلا خاصا. يقول عنه معروف الرصافي: أقول لرب الشعر مهدي الجواهري ألا كم تناغي بالقوافي السواحر.

  

سبب الشهرة الشعرية للجواهري يعود الى تعاظمه وتكبره في شعره على الحكام، لأنهم سبب في اللاعدالة. بينما يظل قريبا متساويا مع الفئة المحكومة

إلا أن الشاعر الفلسطيني الباسل عبد الرحيم محمود، الذي قتل وهو يدافع عن أرض فلسطين سنة 1948، كان يحوم في فلك مواضيع الجواهري. لكن شعره لم يبلغ درجة السياسي، بقدر ما كان فدائييا يسترخص أرواح ابناء البلد مقابل تحريرها من يد المغتصب.

لم يكن الجواهري يشبه أحدا، لا من الحالين ولا من السابقين. شبه شعره كثيرا بشعر الشاعر ابو الطيب المتنبي الملحمي. بيد أن الجواهري لم يكن شعره ملحميا، فهو لم يكن يحمل السيف ويقاتل بجانب الحاكم في المعارك كما فعل المتنبي، بل كان يطلق للكلمة عنانها، تاركة اثرا في فكر القارئ، محفزة الشعب على الانتفاضة في وجه الظلم، معرضا بذلك نفسه للنفي والتهجير والسجن، عكس المتنبي، الذي قد يقتل او يقتل في ساحة المعركة وفي سبيل الحاكم. 

ارتبط الجواهري بالحدث السياسي. لولا هذه الأحداث لما كتب شعرا، ولظل منحصرا في الشعر الذاتي الإنساني، وهو الذي وضع مسافة كبيرة بينه وبينه، ما عدا في بداياته التي كانت غنية بهذه التجربة الإنسانية. اهتمامه بالأحداث السياسية، صيرت شعره شعرا تأريخيا، لانه لم يفارق القضايا السياسية لبلده، حتى أنه يمكن قراءة تاريخ العراق في تلك الفترة من خلال شعر محمد مهدي الجواهري الذي لقي سيطا واسعا عند القراء العرب.

إن سبب الشهرة الشعرية للجواهري يعود الى تعاظمه وتكبره في شعره على الحكام، لأنهم سبب في اللاعدالة. بينما يظل قريبا متساويا مع الفئة المحكومة، بخلاف المتنبي الذي كان يستعلي على كل البشر دون استثناء. يقول المتنبي:

ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم حثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام

  

بينما الجواهري، ينصب نفسه دوما مقاوما مدافعا عن الشعب بالكلمة الشعرية. يقول:

وغرست رجلي في سغير عذابهم وثبت حيث أرى الدغي الهاربا 
 

مدبر من يشبه الجواهري بالمتنبي فقط لأن "الأنا الشعرية" ركيزة أساسية في شعرهما. أو لأن الجواهري حاك في شعره شعر المتنبي أكثر من مرة، أو بسبب الجزالة في اللغة التي تمتعا بها. بيد أن الاختلاف كان تحديدا في الموضوع، فالمتنبي كان خنوعا لحاكمه، يتكسب من مدحه للحاكم، ويجاوره في معاركه سواء كان ظالما أو مظلوما. أي أنه لم يكن متعبا ومتمردا، بل كان مسايرا لنظم الحكم طمعا في الغنيمة. الا أن الجواهري كان فاعلا في الحدث السياسي ومحركا رئيسيا. يوغر صدور أبناء بلده بكلمته التي تمخر عباب البحر من أجل بلوغ قصد واحد ووحيد، هو محاربة الحاكم المستبد. حاملا شعار "الشعر والتمرد السياسي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.