شعار قسم مدونات

"Good Will Hunting".. عبقري لا عرش له سوى الهوامش

blogs Good Will Hunting

       "هناك قوة كامنة.. تحت أي حجر"

كافكا

   

في مقابلة صحفية للأديب البرتغالي سارماغو، سأل عن القصد من وراء كتابته في إهداء آخر أعماله لزوجته جملة: "إلى بيلار التي لم تتركني للموت". واجاب سارماغو بأن بيلار هي الوحيدة التي آمنت به ولم تتركه للموت، فوهبته الحياة، قصة حياة سارماغو في الماضي مليئة بالاسى، فالأديب الحائز على نوبل عاش التشرد والعيش بلا مأوى، أما بيلار زوجته كانت صحفية وآمنت بقدراته وتولت رعايته قبل أن يتزوجا ودفعته لكتابة رواية العمى التي حاز بفضلها على نوبل وجائزتها المالية الدسمة.

  

الحكمة من قصة سارماغو وبيلار أن الإنسان في حاجة دائمة لمن يثق في قدراته ويختار عتمته عوض نور الاخرين، يقول شون ماجواير (روبين ويليامز) في فيلم غود ويل هانتير بأن بعض الناس لا يستطيعون الإيمان بأنفسهم، إلَّا عندما يؤمن بهم الآخرين.

 

من اللقطة الافتتاحية للفيلم الصادر سنة 1997 نتعرف على الشاب ويل هانتينغ (مات ديمون) وهو غارق وسط كتبه في غرفة رثة غير مرتبة، يجلس على كرسي ويقرأ بسرعة، ويل الشاب يعمل كبواب في جامعة هارفرد ومنذ البداية نستنتج أن أسلوب حياة ويل يتناقض تماما مع عبقريته وفكره اللامع: ينجح في فك مسألة رياضية صعبة استعصت على الطلبة.

 

عندما قال البروفسور جون ناش في فيلم beautiful mind بأن المحاضرات تتلف العقل وتضيع الوقت فإن كلامه ينطبق على الشاب ويل ففي الوقت الذي كان فيه الطلاب العاديون يدرسون داخل الفصل، كان وهو الاكثر عبقرية يمسح الارضية في الخارج، هكذا هي الحياة إذن لا تعطي الفرص دائما وكلمة روبين ويليامز في إحدى المشاهد تلخص الامر حينما قال لويل: "إنه ليس خطئك".

   

  

تفوق ويل يدفع الاستاذ اللامع جيري لامبو (ستيلان سكارسجارد) إلى البحث عنه وانقاذه من الاحتجاز والسجن ويضمن له إطلاق سراح مشروط بموافقته على زيارة معالج نفسي، بعد محاولات فاشلة مع عدة معالجين بسبب تمرد وطيش الشاب ويل يلجأ الاستاذ لصديقه القديم شون مجواير (روبن ويليامز) المنتمي أصلا لنفس الحي الفقير والخلفية الاجتماعية، ينجح في ترويض ويل وينتقل الترويض فيما بعد لتعاون ثم صداقة.

 

محور الفيلم اذن، لقاء بين معجزة تبلغ من العمر عشرين سنة ومعالج نفسي يمر من أزمة منتصف العمر، لكن الأمر ليس مجرد سيناريو ناجح من كتابة بين افليك ومات ديمون حققا به الأوسكار، بل أيضا توجها فلسفيا بني على يد الفيلسوف الوجودي الالماني مارتن بوبر الذي ركز على طبيعة اللقاءات البشرية معتبرا الحوار شكلا من أشكال الوجود الانساني وليس مجرد وسيلة للتواصل، وهذا فيلم عما يتطلبه الأمر من منظور بوبر للتحرر من مخاوف ملزمة واتخاد الخطوة الأولى الصعبة التي تؤدي لأعماق الوعي وتزيل الغشاوة عن الاعين.

 

أنا هو أنت

من الصعب تقييم طريقة العلاج التي اتبعها شون لعلاج ويل، ولا لأنها جلسات لا تستغرق وقتا طويلا وكذلك لأنها لم تتجاوز ثماني حصص، ومن وجهة نظر مهنية فشون انتهك العديد من القواعد الاخلاقية التي كان يمكن ان تؤدي لسحب شهادته لو لم يكن في فيلم هوليودي، اعتدى جسديا على المريض في اول حصة لأنه أهان زوجته المتوفية ونقطة ضعفه وكذلك أفشى بانتظام معلومات عن الجلسات العلاجية للأستاذ لومبو.

  

طريقة علاج شون غير عادية بالمرة، الحصة الثانية في حديقة وينهي الحصة الخامسة قبل الوقت ويضغط على مريضه ويحبطه، كما أنه يتحدث بحرية عن حياته الخاصة ويتبادل الأدوار من معالج لمريض يبحث عن العلاج، يكتسب العلاج طابع الجودة الوجودية والحرية بسبب انتماءهما معا لنفس الخلفية وترعرعهما في ظروف متشابهة، رغما عن عدم وضوح أي نهج يتبعه شون، إلا أنه يمكن إسقاط اسلوبه على طريقة مارتن بوبر، في الواقع يمثل الفيلم وسيلة جيدة للتقرب من النهج الوجودي الذي يطلق عليه بوبر اسم " أنا أنت". لذلك بغض النظر من أن أسلوب شون العلاجي غير مهني وكان يمكن أن يستغله مات للتخلص منه على غرار المعالجين الآخرين إلا أنه بدلا من ذلك شعر لأول مرة أنه قد أُخد على محمل الجد من قبل شخص ما لأول مرة.

 

يرى بوبر بأن العلاقات البشرية تقسم لنوعين، أولا علاقة "أنا، أنت" والعلاقة الثانية هي علاقة "أنا، هو" هذه الأخيرة تنشأ بين الإنسان والاشياء أو بين الإنسان وإنسان آخر تحكمهم المصلحة فقط والاستعمال، بمعنى أن الطرف الآخر يُنظر إليه على أنه وسيلة لغاية ما، أما علاقة "أنا، أنت" فتقوم على علاقة "إنسان، إنسان" بعيدا عن كل استغلال واستعمال، فمثلا حين نريد تاكسي فنحن نرى في السائق وسيلة لإيصالنا وهو يرى فينا زبونا يدفع، لكن عندما ينشأ بيننا حديث ننكشف فيه على بعضنا لا كراكب وسائق بل كإنسان وإنسان.

   undefined

  

هنا تبدأ الفرصة لإنشاء علاقة حوار، في العلاقة الحوارية يظهر جوهر كل إنسان كما يرى كل فرد أناه الكاملة، بحسب بوبر فالأنا تختلف بين العلاقتين وفي العلاقة "أنا، هو" لا يمكن رؤية انعكاس الطرف الاخر، كعلاقة التلقين والتعليم، فالمدرس لايرى في الطالب انسانا كاملا مستقلا بافكاره بل مجرد وسيلة يحقنها بالمعلومات. علاقة البروفسور لامبو بالعبقري ويل، علاقة "أنا، هو"، يرى لامبو في ويل عبقريا معجزة ويصفه بكونه اينشتاين صغير، وبأنه يحتاج تدجينا وصقلا لمهاراته من أجل المنفعة العامة واستفادة العالم من عبقريته.

  

على النقيض من ذلك يتعامل شون مع ويل بمنطق علاقة " انا، انت" فمن الوهلة الاولى يخاطبه ككيان حر ولا يهتم بعبقريته، بل يكسر ذلك التفوق والغرور الذي يعيش فيه مات، في الحديقة يتحدث شون عن المعنى الحقيقي للحياة: " أنت لم تخرج أبدا من بوسطن، لذا إذا سألتك عن الفن، يمكن أن تعطيني موجزاً عن كل كتب الفن التي كتبت منذ الأزل، مايكل أنجلو، تعرف الكثير عنه، أعماله تطلعاته السياسية، علاقته مع البابا ميوله الجنسية، كل شيء. صحيح؟ لكنك لن تستطيع أن تخبرني عن رائحة كنيسة السيستين، أنت في الواقع لم تقف هناك وتشاهد ذلك السقف الرائع، أرأيت".

 

الامتحانات والتدجين عند ميشيل فوكو

بدموع في العين وملامح الفشل، يصارع البروفسور لامبو من اجل تقبل الاهانة التي تعرض لها من طرف الشاب ويل، فقد أشعل ويل النار في ورقة كتب عليها الحل لمسألة رياضية استعصت على البروفسور طيلة حياته بينما استطاع هو فكها في مدة وجيزة ساخرا من تفاهتها، الشاب لم يفني حياته في الدراسة ولا يحظى بمنصب أكاديمي، يعيش على الهامش ويعمل بوابا ثم كعامل بناء بعد طرده، يستمتع بمرافقة اصحابه العادين جدا والتسكع بين حانات بوسطن بحثا عن الشجارات والفتيات.

 

الأمر واضح إذا، في حياة كل شخص منا توجد نسخة لويل، شاب كسول غير مهتم متعجرف وعبقري لكن الظروف خانته، ويل ليس مهتما بالعلم أو منفعة البشرية، فالعالم كان قاسيا عليه أما البشر فقد كانوا وحوشا يضايقونه منذ طفولته، في نقاش بين ويل وأحد طلبة هارفرد، يخبره هذا الاخير بأن شهادته ستشغله في ارفع المناصب بينما سيقوم هو بتلبية طلبات ابناءه في محلات الاكل السريع، فيجيبه ويل بأنه على الاقل سيحظى بحياة حقيقية.

  

هذا الطالب يمثل التفكير العام لمجتمعات السلطة حسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، يعتقد فوكو بأن النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال السلطة والقوة عبر الاعدامات والاستعراضات العسكرية لكنه يمارس عبر ما يسميه نظم إنتاج المعرفة، ويرى فوكو بأن السلطة تؤكد وجودها عبر أشياء صغيرة لها قدرة كبيرة، وهكذا يخيل للناس بأن الطلاب الذين يكون حاصل درجات ذكائهم أدنى يلقبون بالكسالى فيما يلقب المتفوقون بالأذكياء، وخطر هذا يتجلى حسب فوكو بالغرس المنحرف والذي يجعل جهلك لمعلومة في مقرر دراسي دليلا على فشلك، في النهاية، جميعنا يمكن أن نكون مثل ويل، فالعيش في الهامش لا يعني الفشل، والثقة بالنفس أول مستلزمات الأعمال العظيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.