شعار قسم مدونات

التشغيبات الستة على الحج.. من زكريا أوزون لأركون

blogs الحج

للأسف، بات الحج، الموسم الأكثر كثافةً لمساءلة الإسلام، ونقد نظامه العباديّ، والشعائريّ، وأثر ذلك بادٍ، في الجهد المهدور في دفع هذه الإشكالات، والتشكيكات، التي تصرف المرء أحيانًا عن التأمل، والعبادة على أكمل وجه في مثل هذه العبادات، والمناسك. فقديمًا، كانت السجالات تتحدد من خلال الفقهيّ المذهبيّ، على طريقة الشيخ العودة (افعل ولا حرج) أو على طريقة الشيخ الفوزان (لا تفعل الحرج)، أمّا اليوم فعديدةٌ هي النقودات التي تشكك بهذه الشعيرة الإسلامية، متوسلةً عشرات المناهج، والأدوات الإناسيّة، والاجتماعيّة، والجغرافيّة، واللغويّة، ومتجاوزةً في الوقت ذاته الفقهيّ المذهبيّ. وفي هذه التدوينة نشير إلى بعضٍ من هذه النقودات، مع نقدها تعريضًا، لا تفصيلًا، لضيق المقام، وحسبنا الإشارة هاهنا.

1- التشكيك المكانيّ

ويتزعم هذا القول دان جبسون، والسوري زكريا أوزون في كتابه "الحج: قدسية المكان"، إذ يرى بعد استجداءٍ عجيبِ للُّغَة، وتوظيفٍ أعجب للكتاب المقدس يأباه لسان العرب ومنطق التاريخ، ليخلص بأنّ: "المسجد الحرام ليس موجودًا في مكّة، إنما موجودٌ في فسلطين في مكانٍ يقال له بيت إيل – وبالعربية: بيتين – والذي يقع على بُعد 18 كم شمال شرق القدس"، وعند جبسون تصبح مكة في البتراء!

2- التشكيك الزمانيّ

ويتزعم هذا الرأي غير واحدٍ من الكُتّاب أمثال: أحمد صبحي منصور، محمد شحرور، زكريا أوزون …الخ وخلاصة قولهم أنّ الحج يصح في أيّ وقتٍ من أوقات الأشهر الحُرم الأربعة، دون التقيد بأوائل شهر ذي الحجة، أي الوقت الذي حجّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وعامّة الأمة الإسلامية على مدى أربعة عشر قرناً! وذلك من خلال اللعب على التوتر الظاهريّ بين أيامٍ معدودات ومعلومات، مع أنّ كلّ الأمر يسير، فالأشهر المعلومات وقت النيّة والأيام المعلومات وقت الفعل، ويصح رفع التعارض بغير ذلك. والغريب أنّ قصد البعض من "توسيع وقت الحج" إتاحة الفرصة لغير القادرين، من أهل الحاجة، على حج بيت الله الحرام،  مع أنّ الشارع أناط الحج بالقدرة والاستطاعة! وعلى افتراض أنّ هذا مقصد شريف، وهو كذلك، لكن ليس من خلال التلاعب بالنصوص، وخرق الاجماع العمليّ الذي تعاهدت عليه الأمة الإسلاميّة منذ نشأتها، بل من خلال نقد الاستثمار الاقتصادي والسياسيّ الذي تمارسه النظم السياسيّة المشرفة على الحج!

3- التوهين القيْميّ

أي توهين "قيمة الحج"، من خلال ردّه إلى مظاهر وثنية، وشركيّة، والمدخل هنا، تاريخ الأديان المقارن، أو الميثيولوجيا، كما هو الحديث عن الحج بوصفه أسلمة للأسطورة المعروفة عن "إساف ونائلة". وهذه الفكرة كثيرًا ما ردّدها سيد القمني، وخليل عبد الكريم، ومحمد سعيد عشماوي في كتبهم، وفيما يبدو أنّ لهذه الفكرة رواجًا قديمًا، أدركه سيدنا عمر بن الخطاب حين خاطب الحجر: "والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". وجوهر الفكرة هنا، هي المماهاة بين قيمتيّ "التوحيد" و "الوثنيّة". واعتبار أنّ المسلمين يعبدون الكعبة والحجر الأسود وغير ذلك من الأفكار الهزيلة التي قُتلت بحثًا ونقدًا، على مستوىً فلسفيّ، أو دينيّ، وأحيل هنا على القسم الأول من كتاب ميرسيا إلياد "المُقدّس والدنيويّ".

   undefined

4-التبديل اللغوي

ويتجلى ذلك في تبديل اللفظ المستخدم في وصف الحج، فعوضًا عن استخدام لفظ "الشعائر"، تمّ استخدام لفظ "الطقوس". وقد يرى البعض أنّ في هذا الاختلاف اللغوي سعةً ومرونة في التوصيف، غير أنّ اللغة ليست أداةً محايدة، والمصطلحات كذلك. وتوضيحًا لجوهر الإشكال، يقول المفكر المغربي الشاهد البوشيخي "المصطلح مثل " المنظار " ننفذ من خلاله إلى البطانة الفلسفيّة الثاوية التي يحملها" فكل مصطلحٍ يُحيل إلى فضاءٍ دلاليٍّ معين. وباختلاف الاصطلاح يختلف المعنى بداهةً. وهذا ما لاحظه المفكر المغربي طه عبدالرحمن، إذ يقول: "… والمثقف المقلِّد، جرياً على معهوده في التعبد لفكر غيره، واقعاً في مزيد الإفقار لفكره، ترك استعمال لفظي الشعائر والمناسك اللذين هما مصطلحان فقهيان راسخان، واستعمل بدلهما مصطلح الطقوس الذي هو لفظة معرَّبة منقولة من اليونانية؛ وفي هذا الاستبدال دلالة واضحة على وجود إرادة صريحة لصرف الإفادات الروحية الغنية التي تقترن باللفظين العربيين المذكورين، وتثبيت مجرَّد المعنى الاحتفالي والشكلي لهذه الأعمال التعبدية، تقليداً لأولئك المفكرين الذين ضاقوا ذرعاً بالطقوس المتتالية والمتكاثرة التي لم يَنزل بها وحي من السماء، وإنما كانت الكنيسة تبتدعها، اجتهاداً من عنديتها؛ وغني عن البيان أن هذا التقليد لا مبرّر له هاهنا، إذ لا نظير، في تراثنا، لهذا الابتداع الشعائري الذي يعمُّ المؤمنين جميعًا"

5- التفريغ المعنوي

تحول الحجّ عند بعض المعاصرين من مجاهدةٍ وسعيٍ وحركة, إلى حالة اطراقٍ ذهنيٍّ في لحظة صفاء. وكان ممّن دعا هذه الدعوة محمد أركون في غير واحدٍ من كتبه، وذلك عبر إعادة إحياء نزعةٍ قديمةً دعا إليها أبو حيّان التوحيدي في رسالة مفقودةٍ له بعنوان : "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء إلى الحجّ الشرعي". حيث يُعلق آركون على عنوان الكتاب فيقول: (عنوان هائل لا يكاد يُصدّق وبعد الاطلاع عليه -أي على العنوان- لا نستغرب لماذا اتهموه بالزندقة. ففي رأيه أن المسلم إذا لم يكن يمتلك المقدرة المادية على آداء الحجّ بإمكانه أن يحج وهو في بيته. كيف؟ عن طريق الروح والفكر والعقل) ومن هنا نفهم الدعوة لـ "الحج من البلكونة" على مذهب نوال السعداوي! وتبرئة التوحيديّ من أحابيل أركون، وإسقاطاته الايديولولجيّة ممّا يجب الالتفات إليه. وهذا ممّا لا يستع المقام إليه أيضًا.

6- التشكيك بالفرضيّة

وعلى رأي زكريا أوزون الذي يتلاعب بمعنى" الاستطاعة" لتتحول، من القدرة المادّية والجسديّة إلى المقبوليّة العقليّة. وبذلك تضحو وجوبية الحج لا تتحدد من خلال المادي-الجسديّ فقط، بل من العقليّ، بمعني العقل يتوجب عليه، استطاعة هذا المنسك، أي أن يقبله، وأن يرتضيه، وإلّا فلا حجّ عليه، فإذا لم يقبله، لا مشكلة، وإسلامه صحيح!

والأمر لا يتوقف عن الحج، كفريضة، ومنسك، بل تجاوز الأمر ذلك للحديث عن متعلقاته كالعيد، و"مذابح" المسلمين في حق الخراف المسكينة، على رأي فاطمة ناعوت، وضرورة توفير أموال الأضاحي لأجل الفقراء، وغير ذلك الكثير ممّا تطالعنا به كتبٌ، ومقالات. وهكذا بدل أنْ ينشغل المسلم بالعبادة، والتقرّب إلى ربه، بات عليه لزامًا سماع هذه التشغيبات، وبدل أن تتحول الشعيرة إلى شيءٍ يقوم به المرء بحكم البداهة، وقوة المقدّس، صار لزامًا عليه تملّكها، بعد جهد، والحفاظ عليها بعد اجتياز نقد النُقّاد، والشانئين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.