شعار قسم مدونات

سايكس بيكو.. أكثر من مجرد حدود مرسومة

blogs طريق

أتذكر في آخر مرة خرجت فيها من إقامتي بشكل نهائي من السعودية وأنا عائد إلى عمان بالحافلة، الحافلة نفسها والأناس أنفسهم الذين فوقها هم من انتقلوا في أقل من 2 كلم والتي لا يتعدى قطع هذه المسافة الدقيقتين فقط، ولكن حتى الحافلة الجماد اختلفت هيئتها في هذه الدقيقتين.. كنا قد وصلنا إلى الحدود من الجهة السعودية بعد سفر عشرون ساعة من الرياض، طوال الوقت والناس صامتة، تخشى على نفسها حتى من السمر والحديث إلى أنفسهم طوال ليل الرحلة، لأنهم على أرض يمنع فيها الكلام إلا فيما هو متاع الدنيا، الرجال يلبسون الدشاديش، النساء تلبسن العباءات، وحتى الأطفال صامتون لأنهم ما زالوا في السعودية "الغريبة" بالنسبة لهم.

الاستراحات على سوبرماركتات وأسواق كلها تحمل أسماء بدوية من نوع أسماء الناس الذين هناك، الطعام في مطاعم الطريق كله من الأرز والدجاج البخاري والمندي وغيره مما يعتاد عليه هناك أيضا، المساجد على الطريق من الطراز النجدي والبحريني القديم، أشكال الناس من أهالي المناطق والاستراحات التي تقف عليها تختلف لاختلاف الهيئة، فكثير ما ترى الشايب منهم يحني لحيته، والمرأة طبعا مختمرة أيا كان عمرها، والذي يلفت الانتباه أنه حتى من عاش بينهم يصبح مثلهم في اللباس والهيئة وحتى اللهجة إن طال به العمر على هذا الحال.

ماذا كان من كل هذا قبل أقل من مائة عام، لو لم يكن هناك سايكس بيكو لسعد الجميع بالعبدلات وفيروز وراشد ومصطفى وحسين في نفس الوقت

في أقل من دقيقتين، وبعد الوصول إلى طرف الحد البير الأردني، أصبحت الناس تتكلم بشراهة وفي أنواع كل المواضيع التي تطرح بينهم وكأنهم كانوا في سجون انفرادية طوال العام، الناس يذهبون إلى دورات المياه ليلبسو البيجامات بدل الأثواب، والنساء تكشف وجوهها وتلبس ما تراه مناسبا بدل العباءة، الطعام وأسماء الأسواق اختلفت تماما بعد كيلومترين وكأنك انتقلت بين طرفي الكرة الأرضية، السائق أغلق قناة القرآن الكريم التي تبث من السعودية وسلط الموجة على قناة أردنية تبث شيئا من "فيروزيات الصباح"، أشكال العمران في مدينة القريّات اختلفت تماما عن العمري والتي لا تبعد عنها أكثر من 5 كيلو متر، كيانك انقلب تماما وكأنك كنت في حلم واستيقظت، أو ربما العكس لا أدري.. ملفت جدا تفاعل بني العرب مع هذه التقسيمات بكل كيانهم، ولا أدري هل هذا نوع من المرونة التي يمتازون بها، أو هو حطام في داخلهم يجعلهم يتشكلون كما تريد آلية النقل التي سترميهم بعد هذا الهوان إلى مزابل التاريخ إن بقوا على حالهم هذا.

المشاهد في مثل هذا كثيرة، أذكر منها كنت مرة في زيارة إلى جمهورية مصر العربية عام 2013، عندما نزلت في مطار القاهرة كانوا قد برمجوا بشكل تلقائي عند نزول كل طائرة في المطار أن يرحبوا بها بتشغيل جزء من أغنية مشهورة لأهل تلك البلد أو تلك المنطقة، الناس كانوا متفاعلين جدا مع تلك الفكرة، أتذكر تماما وأنا أنتظر حقيبتي على الحزام كيف كان اللبنانيون يسعدون بسماع صوت فيروز لخمس ثوان لترحب بعدها المضيفة الأرضية بالخطوط اللبنانية التي حطت في القاهرة، الأردنييون يتفاعلون بكشرتهم المعهودة وابتسامتهم إذا بدأ عمر العبدللات بالغناء، السودانييون يسعدون جدا بسماع صوت مصطفى خليفة، السعوديون يفرحون كثيرا بصوت راشد الماجد وغير ذلك..

ماذا كان من كل هذا قبل أقل من مائة عام، لو لم يكن هناك سايكس بيكو لسعد الجميع بالعبدلات وفيروز وراشد ومصطفى وحسين في نفس الوقت، ولكن الظواهر البسيطة مثل هذه وكثيرة ما أراها خاصة خلال السفر تشعرني بأن هناك خطأ ما أكثر من مجرد حدود رسمها المحتل ليكسر العصي المجتمعة، لأنك إن دققت النظر ستجد أن سايكس بيكو ذهبت أبعد من ذلك بكثير، كثير جدا.. أول ما عرف عن أهل اليمن خاصة والجزيرة العربية بشكل عام بأنهم أصل العرب، ولكني لا أراهم أكثر عروبة في الحمية والفكرة والانتماء وحتى اللهجة من أهل المغرب وتونس والجزائر، ولا أرى أن في عربي لآخر فضل على غيره إلى بما قدم لهذه الهوية التي ينتمي إليها، وليس بتفاخر قدم الأصل والفصل، فكما لم يشفع لأمة الإسلام قاطبة بأكملها تاريخها المشرف في زمن الوهن هذا، لن يشفع لأصل العروبة الأقدم أولوية الانتماء، فالعبرة دائما لمن صدق، لا لمن سبق.. الحق يقال.. سايكس بيكو أكثر من مجرد حدود مرسومة للأسف..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.