شعار قسم مدونات

منطق القوة .. كيف نتعاطف مع الأشخاص الخطأ؟

blogs حوار

"التعاطف هو القدرة على فهم ومشاركة نفس المشاعر من شخص آخر" هكذا عرفه روبرت ماكي في كتابه "story" الذي يُعتبر إنجيل "كتابة النص" في هوليوود. إن روبرت يرى هنا أن النقطة الفارقة في كل قصة ما هي إلا في القدرة على جعل الجمهور يتعاطف مع شخصياتها، في القدرة على جعلهم يعبرون عن أفكارهم، في تمكينهم من إيصال مشاعرهم، وليس الحزن أو النشوة فقط، إنما الطموحات والآمال، الرهانات والشكوك.. في تلك اللحظة فقط يشعر الجمهور أن الشخصية حقيقية فيتعاطف معها ومع قضيتها.

حسنا، ما العلاقة بين هذا وعنوان المقال؟

إن الفكرة هنا ببساطة أننا لا نتعاطف مع الشخصية لعدالة قضيتها، إن المعيار الأخلاقي لا يجد مكانا له في زحمة المشاعر المصطنعة التي يخلقها الكاتب، المعيار الوحيد هنا هو جودة النص وجودة الحوارات، بمعنى أننا نتعاطف مع الأقوى (معرفيا) لا أكثر، إنه قانون الغاب في أحد أعمق تجلياته، كلّ ما كانت الجمل قوية والعبارات رنانة نزداد تعلقاً بالشخصية وتعاطفاً معها، إننا نتعاطف مع الموهبة والإبداع لا أكثر.

– مثال أول نجده في فلم "nightcrawler" الكاتب الرائع والمخرج دان غيلروي كتب شخصية البطل ببراعة فائقة، فبرغم أنه لا مبادئ له على الإطلاق، لا يحترم شيئا، يسعى للوصول لأهدافه حتى لو تطلب منه الأمر قتل زميل له في مهنة مثل الصحافة. إلا أنه أدى مونولوچات في أجزاء مختلفة من الفلم، عبر فيها بعبقرية عن فلسفته في الحياة، إن الجمهور تعاطف معه، لأنه فهمه، لأنه عبّر عن أفكاره ببراعة، لأن الكاتب موهوب.

– مثال آخر يمكن أن نأخذه من رائعة دوستويفكسي الجريمة والعقاب. إن راسكانليكوف استطاع أن يعبر عن أفكاره ببراعة منقطعة النظير، إنك لا تكاد تكمل الخمسين صفحة الأولى من الرواية حتى تتمنى أن تٌقتل العجوز المرابية، إن جمالية الأدب هنا جعلت قضية كالقتل من أجل المال، مطلباً لا يجد القارئ في نفسه غضاضة من أن يتمناه ويتطلع لرؤيته.

حسناً ما المشكلة في تعاطفنا مع الموهوب والفنان والمبدع؟

المشكلة هي أننا نختار المنهج اللامنطقي في تقييم الأمور، والذي ندفع ثمنه بشكل أو بآخر، وسترى ذلك بوضوح في المثال القادم:

– في سلسلة "Chernobyl" التي صدرت مؤخراً عن قناة الـ"HBO"، بعد انفجار قلب المفاعل النووي الرابع مباشرة انعقد اجتماع للمجلس التنفيذي للمدينة المجاورة للمفاعل من أجل اتخاذ الإجراءات المناسبة، لم يكن لديهم تصور واضح عن حجم الكارثة، تحدث أحد شباب المجلس عن إخلاء المدينة بشكل فوري لأن الجو قد يكون ملوثاً، ليقاطعه أحد الشيوخ ويتحدث لدقيقتين عن الصبر على المحن والقدرة على تسيير الأزمات والمكافئات التي سينالونها، وأن الكارثة ماهي إلا حريق بسيط وأن السكان سيبقون في المدينة، الخطاب كان رائعاً وحماسياً، والخطيب كان رزيناً مفوها، صفق الجميع وتقرر الإبقاء على السكان.

المجلس هنا لم يقيّم الأمور بأي نوع من أنواع المنطقية أو العقلانية، إن النقاش هنا حسم بـ"القدرة على الخطابة" لا أكثر. والنتيجة أن الآلاف عانوا من تشوهات وأمراض خبيثة نتيجة بقاءهم قرب الإشعاع لفترة طويلة، لأن الخطاب كان رائعاً وحماسيا! إننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أن ننظر للأمور من أكثر من زاوية، إلى أن نحرر أنفسنا من قيود الشكليات وننظر للجوهر؛ إن النص المكتوب بيراعة لا يزيد أو ينقص شيئا في عدالة وشرعية قضية صاحبه، إن بيت الغزل الرائع لا يعني أن صاحبه عاشق بقدر ما يعني أنه موهوب وشاعر متمكن، إن قول نزار قباني أن قاتلته ترقص حافية القدمين بمدخل شريانه، لا يعني -بالضرورة- وجود مشاعر صادقة معينة لها، ولا يؤكد شيئا أكثر من مكانة نزار كشاعر وأديب، إن الأدباء والكتاب والخطباء يحاولون التلاعب بنا باستمرار، لكن النقاشات والقضايا في هذه الحياة أعظم من أن تحسمها الكلمات الأنيقة فقط.

إنه لا علاقة مباشرة بين "الحقيقة" و"الموهبة" ويجب أن نفصل بينهما تماماً. طبعاً لا أحتاج إلى أن أضيف أن الأمثلة التي وردت أعلاه في أغلبها من نسج خيال كتاب مبدعين، لكن الفكرة ذاتها في كل مكان وكل مجال، كل ما تحتاج إليه هو أن تبصر بدل أن ترى فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.