شعار قسم مدونات

محسوبك الـ CNN.. ظاهرة المواطن الصحفي

blogs مسدس

كان ذلك في حيّنا الصغير. رجل أربعيني قصير القامة نحيل القدّ، منحدِر الكتفين. دخل يشتري نصف كيلو من جبن "العكاوي"، ووقف كعادته يخبر قصة واقعية في دكان أبو أحمد الذي اتسع يومها لخمسة شبان واقفين، وطفل يحاول التلصص من خلفهم ومن بين أيديهم لمتابعة قصة مشوّقة يرويها (كنعان الأعرج). يلقب كنعان منذ سنوات بهذا الاسم كونه يعاني مشكلة خلقية في قدمه اليسرى، تجبره على التعرج قليلاً أثناء السير، وهو متصالح مع لقبه، ومحبوب من قبل جميع أهالي المنطقة.

 

كان في ذلك المساء يروي قصة عسكري قتل زوجته بطلق ناري من مسدسه الحربي إثر خلاف بينهما. وقد أدهش كنعان جميع الواقفين بتفاصيل مثيرة عن قصة الزوجين واللحظات الأخيرة التي سبقت الجريمة.

– "من وين بتجيب هالأخبار يا كنعان؟" سأله مصطفى ابن صاحب الدكان متحمساً. فابتسم الرواي، وأجاب بكل ثقتة وصوته الأجشّ:

– "محسوبك الـ سي أن أن! ثم غمزه، في إشارة إلى كونه مصدراً ذا حرفية عالمية في نقل الخبر..

 

انطلق صوت حاد من الصبي الواقف قرب براد الكولا في زاوية الدكان، يسأله وبدا على نبرته الثقة والعفوية: "عمو كيف عرفت إنو أكل لوبيا قبل ما يهرب؟".. وعم الصمت في الدكان

ثم واصل السرد:

– "هو الزلمة عقلو صعب، ومرتو الله يسامحها كمان عنيدة. رجع من الخدمة لقاها طابخة لوبيا، وهي بتعرف إنو بيكره اللوبيا!.. قللها يا بنت الناس ليش هيك عاملة قالتلو هيدا الموجود دبّر حالك.. والزلمة كان فيه عقل وطار..". توقف الجميع لبرهة، وتسمّر مصطفى أمام مستوعب الجبنة الحديدي، شاهراً سكينه القاطع، منتظراً سماع النهاية المأساوية..

– "وشو عمل الرجال؟" سأله خالد الذي يحمل كيس خبز وعلبة حلاوة

– "فات عالغرفة، جاب الفرد (المسدس) وقوصها ضربين براسها"

 

ثم أخذ جميع الحاضرين يتمتمون ويطرحون الأسئلة المتلاحقة، وكنعان يحرص على إجابتهم جميعاً.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.. هيك بدون سبب تاني؟

– ايه نعم. هو الظاهر من فترة في مشاكل بيناتهم (أجاب كنعان)

– وشو عمل بعد الجريمة؟

– ولا شي، فات غيّر البدلة العسكرية، وطلع أكل لقمتين من صحن اللوبيا، وراح من البيت..

– عندهم ولاد؟

– بنتين وصبي.. الله يعينهم. بس وقت القصة كانوا بالمدرسة

– وينو الزلمة هلق؟

– هربان ما حدا بيعرف، عم يفتشوا عليه..

 

واستغرق الإسهاب ربع ساعة من الحديث المتواصل، والأسئلة التي تجد جوابها مهما تعذرت. وتأثر جميع الحاضرين بالقصة. وشتم بعضهم الرجل المجرم الظالم ولاموه على فعلته النكراء، وجريمته المضاعفة بحق زوجته وأولاده..

 

وهكذا كانت قصص كنعان: مثيرة وجديدة ودقيقة التفاصيل. رغم أن الرجل كان بسيط الحال يعمل موظفاً في البلدية في قسم الصيانة. وهو لا يعترف بالهاتف وسيلة للتواصل إلا ما ندَر، ويستخدم التلفون العمومي في الشارع عند الضرورة. مع انتهاء قصة القتل المأساوية، كان يهم الأعرج بإخبار الحاضرين عن أنباء مؤكدة سمعها حول أسعار البنزين. لكن سؤالا علق في ذهن أحد الحاضرين حول قصة العسكري.

 

انطلق صوت حاد من الصبي الواقف قرب براد الكولا في زاوية الدكان، يسأله وبدا على نبرته الثقة والعفوية: "عمو كيف عرفت إنو أكل لوبيا قبل ما يهرب؟".. وعم الصمت في الدكان. وأخذ الحاضرون ينظرون بازدراء نحو الصبي الذي أفسد عليهم متعة القصة. اصطنع كنعان ابتسامة بلهاء، ومد يده إلى كتف الصبي وسأله: عمو أنت مين أبوك؟ ثم تصدّق على رقبته بـ"سحسوح" رن صوته وخرق جدار الصمت، وحمل كنعان جبنته في كيس صغير، وغادر.

 

وبعد أسبوع على الحادثة تناقلت وسائل الإعلام المحلية الرواية الرسمية التي كشفتها التحقيقات والتي أشارت إلى أن المرأة الضحية كانت تعاني من مشاكل نفسية وتتلقى أدوية مهدئة، وقد انتحرت عبر مسدس خبأه زوجها في البيت. وأكدت الرواية أن الرجل كان متواجدا في خدمته العسكرية أثناء انتحار زوجته، وكانت هي تمر بظروف نفسية صعبة بسبب شعورها بالوحدة بعد سنوات من زواجهما وعجزهما عن الإنجاب.

 

كنعان الأعرج اليوم ما زال يحتفظ بوظيفته في البلدية، وهو أيضاً مدير لخمس مجموعات إخبارية على واتساب، ومؤسس لصفحة محلية على فيسبوك تعنى بالحوادث والوفيات والطقس والكهرباء والضرائب بعنوان "شبكة أخبار طرابلس والجوار"، ويتابعها آلاف من أهالي المنطقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.