شعار قسم مدونات

كيف يرى بوتين ما بعد "نهاية التاريخ"؟

blogs بوتين

"ما قد نشهده هو نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وإضفاء الطابع العالمي على الديمقراطية الليبرالية الغربية بإعتبارها الشكل الأخير للحُكم الإنساني"

-هكذا كتب فرانسيس فوكوياما في مقالته عام 1989 "نهاية التاريخ"

    

بعد مرورِ ثلاثين عامًا، يبدو أن الحجة اِنقلبت رأسًا على عقب، كما أعلنَ فلاديمير بوتين، القيصر الفعليّ للأمة الروسية، التي خرجت من تحتِ أنقاض الإتحاد السوفيتي، عشيةَ قمة مجموعة العشرين في أوساكا، ليس التاريخ "الرجعي" بل الديمقراطية الليبرالية التي يبدو أنها "نمت وأنتهت".  قال لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إن الليبراليّة: "تتعارضُ مع مصالح الأغلبية الساحقة من السكان".

 

إن رؤية بوتين لليبرالية هي بالطبع صورة كاريكاتورية، يقترح أن "فكر الليبرالية" "يفترضُ مسبقاً أنه يمكنُ للمهاجرين القتل والنهب والاغتصاب دون عقابٍ لأن حقوقهم يجبُ حمايتها" ويفجّر مسائل، من قبيل الحدود المفتوحة والهجرة وحريّة التعبير والتعددية الثقافية، ويردفُ قائلًا الليبراليونَ "يزعمون الآن، أنه يمكنُ للأطفال لعب خمسة أو ستة أدوار جنسانية". وغيرُ صحيح أن الليبرالية الاجتماعية قد تم رفضها من قبل "الغالبية العظمى من السكان".

 

في بعض البلدان، مثل روسيا أو البرازيل، ربما تكونُ المواقف تجاه الهجرة أو حقوق المثليّين قد تصلبّت، لكن في حالاتٍ أخرى، بما في ذلك بريطانيا، وألمانيا أصبحت المواقف الإجتماعية أكثر ليبرالية، حتى مع استقطابها أكثر، وفي أمريكا دونالد ترامب، على سبيلِ المثال، أصبحَ الناس أكثر دعمًا للهجرة، ولكن أيضًا أكثر حزبية. مهما كانت رؤية بوتين "المشوهة" لليبرالية، فإنها تواجهُ بلا شّك تحدياتٍ نادراً ما واجهتها من قَبل.

 

من أمريكا إلى الفلبين، يكشفُ صعود الحركات الشعبويّة عن التوقِ إلى الإنتماء والهُوية والعِرق، التي لا يُمكن لليبرالية الوفاء به أو الذهابُ مع رياحه، يثيرُ ظهور قِوى اِقتصادية غير ليبرالية، مثل الصين، ذهول "النظام الليبراليّ" بعد الحرب، كفلسفةٍ، تظهرُ الليبرالية في العديد من الأشكال المُتنافسة وفي قلبِ معظم الأشكال، يقفُ الفرد، كما كتبَ جون لوك، مؤسسُ الفلسفة الليبراليّة في القرن السابع عشر، بشكلٍ طبيعيّ في "حالةٍ من الحُرية الكاملة لطلب العمل والعيش … دون وضع حواجز أو أسوار، أو اعتمادا على إرادة أي رجلٍ آخر" ، كلاسيكيًا، رأى الليبراليّون أن المجتمع يضمُ أفرادًا أحرارًا، يتجمعون في اتفاقٍ عقلانٍي طوعي «عقد اجتماعي» بتعبير روسو، يجبُ أن يكون أي ضبط يوضع على حرية الفرد، بما في ذلك الحق في التملك، مبررًا وبالحد الأدنى. وأشار النُقاد إلى أن البشر لا يعيشون فقط، كأفراد.

 

مع تصاعد الأزمنة، عدّلت الليبرالية كلاً من قداسة التعلق الكلاسيكي بالملكية الخاصة، والنفور من تدخل الدولة، بدأت العلاقة بين الليبرالية والراديكالية والمحافظة

نحنُ كائنات اجتماعية ونجدُ فرديتنا ونكتشف المعنى من خلال الآخرين، ومن هنا، تكمنُ أهمية الحياة السياسية ليس بالنسبة للأفراد، ولكن أيضًا، للمجتمعات والتكتلات، تصدّر نقدُ الفردية الليبرالية، كلاً من المحافظين والراديكاليين. نظّر المحافظون إلى التاريخ والتقاليد والأمة، باعتبارهم الوسيلة التي أصبح بها الفردُ جزءًا من كيانٍ أعظم، إن الأمةَ، كما كتب إدموند بيرك، أحد رواد النزعة المُحافظة الحديثة، لا توجد في مجموعةٍ من القيم فحسب، ولكن أيضًا في "فكرة الاستمرارية، التي تمتدُ مع الأزمنة والأمكنة والأعداد".

 

بالنسبة إلى النُقاد الراديكاليّين لليبراليّة، لا سيما الإشتراكيّين والماركسيّين، أدرك الفرد نفسه بنفسه، ليس من خلال التقاليد، ولكن من خلال الكفاح من أجل تحوّلٍ مجتمعيّ، من معاركِ ظروف عملٍ لائقة إلى حملات من أجل المُساواة في الحقوق، خلقت هذه النضالات منظماتٍ، مثل النقابات العمالية وحركات الحقوق المدنية، ومكافحة الإستعمار والعنصرية والحرب، والتي جذبت الأفراد إلى أنماطٍ جديدة من الحياة الجماعية، وصاغت أشكالًا جديدة من الانتماء وتعريفاتٍ للأهداف المشتركة، لطالما تعايشت التوترات بين الطرق المحافظة والراديكالية، حول الإنتماء.

 

تعتمدُ فكرة المجتمع أو الأمة حتمًا على ماضٍ شكّل حاضره، لكن وجود حركات للتغيّير الإجتماعي يغيّر معنى الماضي والطُرق التي يُفكر بها المرءُ في الهُوية، "أمريكا" و "روسيا" تعنيان شيئًا مختلفًا إذا ما رُهن تعريفهما من حيثُ ما نريد أن تكون عليه الأمة، بدلاً من مجرد ما كانت عليه، كان التوترُ بين الليبراليّة والراديكالية أكثر أهمية. ضمنت الليبرالية أن مسألة الحقوق والحُريات الفردية ظلّت مركزيةً في العديد من فروع اليسار، حتى عندما رفضَ الإشتراكيون المفاهيم الليبراليّة للملكية الخاصة.

 

مع تصاعد الأزمنة، عدّلت الليبرالية كلاً من قداسة التعلق الكلاسيكي بالملكية الخاصة، والنفور من تدخل الدولة، بدأت العلاقة بين الليبرالية والراديكالية والمحافظة في التغيّر في العقود الأخيرة من القرن العشرين، إلى حدٍ كبير مع تفكك اليسار، بدت فكرة وجود بديل للرأسمالية بالنسبة للكثيرين، مستحيلةً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حتى قبل سقوط جدار برلين، ظهرَ نوعٌ جديد من الليبراليّة الإقتصادية، غير المقيدة بقيودِ الحاجة الإجتماعية، وهو ما أُطلق عليه الآن، الليبراليّة الجديدة "النيوليبرالية".

 

في جوهرها، كانت فلسفةُ إلغاء التنظيم والخصخصة وإدخال قوى السوق وآلياته في كل زاوية ورُكن من الحياة الاجتماعية، وفي الوقت ذاته، انهارت المُنظمات التي وفرت للناس من الطبقة العاملة الأمل والكرامة، تم سحقُ النقابات، وبتآكل الحركات الإجتماعية الراديكالية؛ أصبحت المجتمعات ذرية، وتم تفكيك جزءٍ كبير من الهندسة الإجتماعية الأساسية للناس كي يزدهروا، وهذه عملية لا تقتصر على الغرب، ولكنها مرئية للعيان في جميع أنحاء العالم. على هذه الخلفية، فإن العديد من أولئك الذين يتطلعون إلى إعادة خلق شعورٍ بالتضامن الإجتماعي قد تم استنباطهم إلى الأفكار المحافظة، والرجعية، المُتمثلة في الإنتماء، والمتجذر في الأمة والتقاليد والعِرق والتدين.

 

وفي عصرٍ لا يوجد فيه سوى عددٍ قليل من الحركات الإجتماعية التحويليّة، تحوّل الشعوبيون والعنصريون إلى رجالٍ أقوياء للقيام بهذه المهمة، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، اعتقد ربع الناخبين فقط، أن ترَمب "حسن التقدير" لكن أربعة من كل خمسة اعتقدوا أنه يستطيع "إحداث التغيير". ينطبقُ الشيء عينهُ على الزعماء الشعوبيين في جميع أنحاء العالم، من بوتين إلى أردوغان، ومن سلفيني إلى دوترتي. المفارقة هي أن المشكلة التي تواجهّها الليبراليّة هي تقليص الليبرالية الإجتماعية كما سمحَ تراجع اليسار بنجاح، بتأطير الجانب القبيح للفردية، وربما للأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.