شعار قسم مدونات

صلاة جنازة على الحِلم الأمريكي..

blogs أمريكا

نعوم تشومسكي، بروفيسور اللغويّات والمثقّف الموسوعي والناشط السياسي المُعارض للسياسية الأمريكية من عقود، والذي صُنّفَ على أنّه أعتى مُثقّف مرَّ على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في القرنِ العشرين، كتب هذا الرجل العملاق كتاباً في عامِ 2017 تحتَ عنوان Requiem for the American Dream، أو صلاةُ جنازة على الحِلم الأمريكي، وقدْ ترجمْتُها إلى صلاةِ جنازة، أمّا في حقيقة الأمر فترجمَتُها: قُدّاس كنسي يُقام على أرواح الموتى، ولكنّني ذهبتُ إلى صلاة الجنازة كوني مُسلّم موحّد.

 

حُوّلَ الكتاب إلى فيلم وثائقي، وقدْ كانَ عبارة عنْ مقابلة يتحدّث فيها نعوم عنْ الكتاب وفحواه، وكيْ لا أُطيل في المقدّمات، دعوني أبدأ بالمهمّ والصميم، كبداية وباختصار فهذا الكتاب يتحدّث عن مركزية السُلطة والمال في النظام الرأسمالي، أو كما في لغتها المكتوبة، Concentration of Wealth and Power، وقدْ حدّدَ تشومسكي عشرة مبادئ تحكم هذه المركزية، واستهلَّ بما سمّاه The vicious cycle، أو الدورة الوحشيّة بين المال والسُلطة، وتدور هذه الدورة على النحو المبين في الصورة المرفقة:-

   undefined

   

يُعلّق تشومسكي قائلاً: أنَّ هذه الدورة تبدأ بالمال في أساسها، والمال يلعبُ دورَهُ في الانتخابات لإعطاء السُلطة بالمقابل، وعندَ الحصول على هذه السُلطة فبلا أدنى شكّ سيمتلك صاحب هذه السُلطة الشرعيّة وسنّ القوانين. كانتْ هذه المُقدّمة هي نقطة الانطلاق عند تشومسكي لعرضِ المبادئ التي تكلّمنا عنها، وسأذكرها أوّلاً، ومنْ ثمَّ سأُعلّق على كلِّ واحدٍ منها على حدا، وهذه المبادئ هي -وباللغتين- وسأترجم كل واحدةٍ منهم كما فهمتها وأدركتها:-

1- Reduce Democracy أو تحجيم الديمقراطية.

2- Shape Ideology أو تشكيل الأيدولوجيا.

3- Redesign the economy أو إعادة تصميم الاقتصاد.

4- Shift the burden أو نقلُ الحِمل أو تخفيفه.

5- Attack the solidarity أو مهاجمة التكافل والتضامن.

6- Run the regulators أو صنع اللوبيّات والأشخاص المعنيين بالسلطة.

7- Engineer Elections أو هندسة الانتخابات.

8- Keep the rabble in line أو إبقاء الحشود تحت السيطرة.

9- Manufacture Consent أو صناعة القبول والسكوت.

10- Marginalize the population أو تهميش الجماهير والشعوب.

 

والآن دعونا نبدأ بالحديث عنهم وبيان آحاد هذه المبادئ، والطريقة التي يتم التعامل بها مع هذه المبادئ، المبدأ الأوّل وهو تحجيم الديمقراطيّة، يتحدّث تشومكسي عن الديموقراطية كونَ تعريفها "حكم الشعب" وقدْ تطرّقَ إلى أنَّ هذا الحكم تحوّلَ إلى مُجرّد وهم في يدِ الشعوب، وفي حقيقة الأمر الديموقراطية أصبحتْ مجازاً إلى حدًّ ما، ويقول أيضاً: أنَّ هناك حريّة رأي وتعبير أو Freedom of Speech، ولكنْ، هذا لا يكفي، لأنَّ هذا التعبير يتوقّف فقط عند الكلام، أمّا الديموقراطية فيجب أنْ تكون أفعالاً على الأرض، وهذا الذي تمَّ تحجيمه شيئاً فشيئاً إلى أنْ اندثرَ بشكلٍ أو بآخر!  

  

في عام 2010 أصبحَ المال هو المهيمن والمُسيطر، وأصبحت الصناعات شيء مُهمّش لا يُذكر مقارنةً بال Wall Street مثلاً! ومسألة الودائع الماليّة في البنوك نوعاً جديداً من التجارة

هذا ما يخصُّ تحجيم الديموقراطية باختصار شديد، ولنْ أُسهبَ أكثر لأنَّ المقال لنْ يتّسع! المبدأ الثاني يُعدُّ من المبادئ الخطيرة، وهو تشكيل الأيدولوجيا، يقول آدم سميث -عرّاب الرأسمالية والاقتصاد-: Free circulation of workers is the foundation of any trade system، البند الأوّل في هذا المبدأ هو: اللعب على وتر حسّاس جدّاً هدفه زعزعة الاستقرار الوظيفي لدى الشعوب أو Job Insecurity، وذلك كي لا يهتمّ الموظّف بأي شيء سوى الحفاظ على وظيفته فقط، وكيْ لا يُطالب بعلاوات ومكافئات من الأساس، فالأيدولوجيا هنا هي زرع نوع من الخوف في صفوف العمّال والموظفين، ويقول Alan Greenspan الذي كانَ رئيساً للاحتياطي الفدرالي للولايات المتّحدة الأمريكية: Job insecurity played dominant role، وفي نطاق تشكيل هذه الأيدولوجيا يتحدّث تشومسكي عن خلق حالة جديدة من كسب المال حتّى للشركات العملاقة، وقدْ ضربَ مثالاً على General Electric، ويقول في هذا: They could make more profit playing games with money in complex ways than producing in USA، وبهذا يتمّ تهميش الصناعات وتُصبح اللعبة بالأموال فقط.

 

المبدأ الثالث وإعادة تصميم الاقتصاد، وفي هذا نرى تضخيماً للمؤسسات المالية والمصرفية، كالبنوك وشركات التأمين، ففي عام 2007 كانَ 40% من العائدات عن طريق هذه المؤسسات المالية والمصرفية، وفي عام 2010 أصبحَ المال هو المهيمن والمُسيطر، وأصبحت الصناعات شيء مُهمّش لا يُذكر مقارنةً بال Wall Street مثلاً! ومسألة الودائع الماليّة في البنوك نوعاً جديداً من التجارة أيضاً في فترة الخمسينيات، لهذا يقول تشومسكي أنَّ هذا التصميم بدأ قديماً لإيصاله لهذه المرحلة الطاغية.

  

المبدأ الرابع يتمثّل في تخفيف الحِمل ونقله للشعب، ويكونُ هذا بجعلِ الشعب ينغمس في تحصيل ما لذَّ وطاب من كلِّ شيء دونَ استثناء وسنتطرّق إلى هذا بشكل مُفصّل في المبدأ التاسع إن شاء المولى. الرأسماليّة ذكيّة للغاية، ويتجلّى هذا في نقطتنا الخامسة، يقول تشومسكي: مهاجمة التضامن والتكافل هو أحد المحاور المهمّة لمركزية المال والسُلطة، وتكون على شكل غسيل دماغ -إنْ صحَّ التعبير- وإزالة أي شيء له علاقة العاطفة والتعاطف مع الغير أو ال Sympathy، وهذا يؤدي إلى الأنانية، يقول آدم سميث مرةً أخرى: I care for myself, and wish nothing for anyone else، وهذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، تتم مهاجمة مؤسسات الضمان الاجتماعي وما شابهها، وقطع التمويل عنها أو Defunding it، والمدارس العامة أيضاً لمْ تسلمْ من هذا الهجوم، وإنْ عدنا إلى فكرة زرع الأنانية، سنرى الهجوم على المدارس العامّة الحكوميّة في أوجهِ، لأنَّ هذه الأنانية ستمنع الشعب من دفعِ الضرائب وبالتالي قطع التمويل عن المدارس العامّة، والاتّجاه إلى المدارس الخاصّة، Privatization of schools، فكأنَّ الشعب يقول: ليس لي أولاد في المدارس فلمَ عليّ أنْ أدفع الضرائب ولا أستفيد منها، ويستفيد منها غيري.

 

المبدأ السادس نسبياً معروف لدى الكثيرين، ألا وهو خلق اللوبيّات والسياسيين لقيادة الأمور في النظام، أو ال Lobbying، ووظيفة هؤلاء تتمثّل بالكثير، ولعلَّ أهمّها هو الإنقاذ الدائم للشركات الضخمة في كلِّ أزمة تحصل، والتي هي في الحقيقة خلف أي أزمة اقتصادية، لذلك يقول تشومسكي: أنَّ الرأسمالية لا تبحث عن حلول للأزمات، وإنّما تعتمد هذه الشركات على اللوبيات في إنقاذها عن طريق الضرائب طبعاً، ومن خلال عمليات الإنقاذ هذه تقوم بنسف أي منافس صغير في السوق، وبهذا تعود المركزيّة! وهذا ما يحصل وسيحصل على طولِ الخطّ.

 

يجب وضع الجماهير في مكانهم المناسب، لكيْ يقوم أصحاب السلطة بممارسة سلطاتهم دون تشويش من القطيع المرتبك! لذلك تضع الرأسمالية هؤلاء الجماهير -المرتبكة المتخبّطة- في مطحنة الاستهلاك، فيصبح همّها في العمل والكدّ في شراء بضائع وأشياء

النقطة السابعة والثامنة تشتركان في الهيمنة الحاصلة، فالأولى هي هندسة الانتخابات والثانية هي إبقاء الجماهير واستحمارهم -إنْ استعرنا مصطلح علي شريعتي- وفي هذا يتمّ استغلال القانون دائماً لصالح الشركات الكبرى بلا شكّ، واستخدامه على أنّهم أفراد، فيقول تشومسكي أنَّ الكثير من القوانين تُستخدم كذريعة لدى الشركات عند مخالفة القانون الفلاني، مع أنَّ معظم هذه القوانين هي فرديّة وتحكم الأفراد، لذلك يرى أنّه من السذاجة مُعاملة هذه الشركات على أنّ÷ا أفراد، على الجانبِ الآخر، فإنَّ مُهاجمة الأفراد باستهداف الأحزاب العُمّالية وما إلى ذلك هو عضد المركزيّة، وفي هذا نضربُ مثالاً قام به الرئيس روزفلت، فقدْ قامَ بدعوة الجماهير وما يندرج تحتها من أحزاب بالخروج للاحتجاج والتظاهر، والمطالبة بما يحلو لهم، وبهذا سيقومُ هوَ بسنِّ القوانين وتشريعها! ولكنْ، الأمر ليسَ كما يبدو، فبهذه الحركة يكون قدْ أخضع هذه الأحزاب لسيطرته، وبالمقابل لا قوانين ستُطبّق! لأنَّ الدائرة الوحشيّة مستمرّة شئنا أمْ أبينا.

 

النقطة التاسعة وهي الأهمّ، صناعة مستهلكين، وقدْ أشار تشومسكي إلى هذه النقطة بصناعة السكوت والقبول، وهي فعليّاً صناعة مستهلكين، يقول Walter Lippmann: The public must be put in their place, so the people in power can exercise their power without the bewildered herd، يعني: يجب وضع الجماهير في مكانهم المناسب، لكيْ يقوم أصحاب السلطة بممارسة سلطاتهم دون تشويش من القطيع المرتبك! لذلك تضع الرأسمالية هؤلاء الجماهير -المرتبكة المتخبّطة- في مطحنة الاستهلاك، فيصبح همّها في العمل والكدّ في شراء بضائع وأشياء، وتُحدّد حياتها فقط في هذا الاستهلاك ولا أي شيء أخر، بمعنى أخر هي مصيدة لا مهرب منها -ونسألُ الله العفو والعافية-.

 

أخيراً وليس آخراً، ننتقل إلى تهميش الجماهير، كتكملة للنقاط السابقة، فهذه عمليّة متكاملة وقدْ بدأ التهميش في المبادئ السابقة، ولكنَّ هذه هي ال Final Touch، يقول مارتن غيلينز: 70% of people has no way of influencing policy، ويُعقّب تشومسكي قائلاً: and they know it، لا تأثير على الحياة السياسية بالمرّة، وإنْ كانَ هنالك أحزاب عمالية فستكون ال 30% الباقية، ولكنْ هذا التأثير غير مجدي، ولا ينفع، ذلك أنّه غضب غير موجّه، أو كما سمّاه تشومسكي بال Unfocused Anger، وكلُّ ما ذُكرَ سابقاً هو ما أدّى إلى هذا التهميش، فهذه المبادئ هي للوصول لهذا التهميش في نهاية المطاف، ويقول جون ديوي: Policy will be the shadow cast by business over society.

 

حاولتُ قدرَ الإمكان أن أُحيط بمعطيات هذا الكتاب وهذا الوثائقي اللامع جدّاً، لذلك لنْ أُطيل أكثر وسأكتفي بهذا القدر، وسأختمُ بما قاله تشومكسي، ولعلّه من جُلَّ ما أعجبني في الرجل، فقدْ قال أنّنا لسنا أذكياء كفاية لتصميمِ نظامٍ عادل وشامل للجميع، ولكنّني سأقول ما قاله صديقي Howard Zinn: What really matters is the countless small deeds of unknown people, who lay the basis for the significant events that enter history.

 

لعلّ الإسلام يا تشومسكي هو الحلّ! وكمْ أتمنّى من رجلٍ ضخمٍ مثلك لو يتطلع على إسلامنا ويرى، فأنا على يقين أنَّك سترى وجه الحقِّ فيه.. والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.