شعار قسم مدونات

السيدة من تل أبيب.. أدبٌ بنكهةٍ سياسية!

blogs السيدة من تل أبيب

لطالما آمنتُ بالأدب ودوره الكبير في نقل الأحداث السياسية وتقديمه للتاريخ بشكل يخدم العقل والعاطفة في آن، خاصة بُعيد مراجعتي لأعمال غسان كنفاني، ومحاولتي -الفاشلة- لوضعها في كفة المقارنة مع عمل ربعي المدهون "السيدة من تل أبيب"، فشتان ما بين أدب يحرضكَ للدفاع عن حقكَ، والتمسك به، وأدب يصدّر لكَ الخضوع والتسليم!

منذ قراءتي الأولى لهذه الرواية وسؤالٌ واحدٌ يدور في فلكي، سؤالٌ مزعجٌ أحاول ألّا استذكره كما استذكر هزائمنا، وانسحاقاتنا المتتالية، ألا وهو "كيف يمكن للمرء أنْ يتعايش مع العدو؟!" أحاول أن استسيغ فكرةً كهذه أو أجد سببًا يجعلني أتقبّلها، لكنّني عبثًا أحاول! فكيف للإنسان أنْ يتعايش مع عدوه؟! بل وكيف لشخصٍ هُجِّرَ عن أرضه ودياره، وذاق من الإغتراب ما ذاق أنْ يُقدِّم لنا فكرةً سياسيةً كهذه؟!

المُدقّق بين سطور الرواية يرى أنّ الكاتب أخذ على عاتقه فكرةً معينةّ دُسَّت في كلّ أحداثها حتى النهاية دون أنْ تصبّ في مصلحة الكاتب أو الفلسطينيّ في شيء

يبدو أنّ الكاتب أخطأ من حيث حاول أنْ يُصيب، ففكرة التعايش كما ساقها المدهون في روايته تبدو بعيدةً كلّ البعد عن المنطق، بل ومكروهةً بكلّ المقاييس بالنسبة لي -على أقلّ تقدير-. إنّ الفكرة تبدو عصيّةً ومقيتةً خارج إطار الرواية، وحتى في الرواية نفسها يحتاج المرء أنْ يبذل جهدًا كبيرًا ليتقبّل فكرةً كهذه، ويقدِرَ على احتوائها، إذ كيف يمكن أنْ بتقبّل الفلسطينيّ العيش مع شخص يدرك في سرّه أنّه عدوّه وأنّه قد يأتي يومٌ ويكون السّبب في إهانته أو موت أحد الذين يحبُّهم؟!

إن الأمر إذا حصل سيبدو ضرباً من الجنون والعبث، فصعبٌ على الفلسطينيّ أنْ يرضى بحالٍ كهذا، فالتعايش بسلام مع العدو ضربٌ من المستحيل حين تكون يداه ملطخةً بالدماء، حين يفتك بأبنائنا نهارًا وينتهك حرماتنا ليلًا يستحيل أن نرضى العيش أو التعايش معه بأيِّ شكلٍ كان، هذا ما أقوله أنا، هذا ما سيقوله الشاب الذي يقطع الحاجز كل يوم ليمر إلى عمله، هذا ما ستقوله العجوز التي هُجِّرَت منذ عام 1948م وما ستأباه دون أنْ تعاود التفكير في الأمر.

لا أريد التحامل على الكاتب، أو أنْ أحمّل الرواية أكثر ممّا تحتمل، لكن هذا ما رأيتُه وكان جليًّا في قراءةٍ ثانيةٍ لها، إنّها تُرجِع المرء إلى فكرة حلّ الدولتين، والتعايش بسلامٍ مع العدو، بتمرير هذه الفكرة في قالب الحبّ والمشاعر الجيّاشة التي اعتبرت بطل الرواية (وليد الدهمان) أثناء جلوس اليهودية الجميلة (دانا أهوفا) بجانبه في الطائرة، وإلّا فكيف يمكننا تفسير هذا المشهد المُمتدّ في الرواية؟!

وعلى حساب فكرة التعايش هذه جاء إلغاء الشخصيّة الفلسطينيّة متمثّلًا في تقبُّل (وليد الدهمان) لاقتراح (أهوفا) بتغيير اسم الرواية التي كان يباشر كتابتها، فلو فرضنا جدلًا أن التعايش تم على الواقع، فهل سيرضى الفلسطيني بمقترحات عدوّه لتغيير حياته وتحسينها؟! إنّ المُدقّق بين سطور الرواية يرى أنّ الكاتب أخذ على عاتقه فكرةً معينةّ دُسَّت في كلّ أحداثها حتى النهاية دون أنْ تصبّ في مصلحة الكاتب أو الفلسطينيّ في شيء، اللهم إلّا في إبرازه لمعاناة الفلسطينيين على معبر "إيرز" أثناء محاولتهم الدخول أو الخروج من غزة.

لقد جاءت الفكرة تأطيرًا للقضية الفلسطينية في حدودٍ أدبيّة سياسيّة بامتياز، مُمثَّلةً بصراعات الشعب وقضاياه، وذلك من خلال تكثيف الأحداث وزجِّ شخصيّة (وليد الدهمان) في صراعاتٍ كثيرةٍ بدءًا بمُجابهته لمشاعره تجاه (أهوفا)، وتواجدهما في مكان واحد -الطائرة-، مرورًا بتعايشه معها وتبادلهما الأحاديث والذكريات، وإسباغه الأسماء العبريّة على الأماكن التي كان يمر منها أو ينتقل إليها، وهذه الأحداث على نحو ما جاءت في الرواية وبالطريقة التي سردها بها الكاتب قدّمت اعترافًا ضمنيًّا بالكيان الصهيونيّ، وتقبّلت وجوده كما لو أّنه لم يُسبِّب أذىً للفلسطينيين في يوم!

وهنا أجدني غير قادرٍ على قتل أسئلتي، فهل حاول الكاتب إقناعنا بفكرة احتواء هذا الكيان وتقبُّل وجوده؟! أم تراه كان يريد أنْ يُوصل لنا رسالة معينة من خلال طرحه لقصة أخرى ألا وهي العلاقة التي كانت بين أهوفا وابن المسؤول السياسي العربي الذي تورع عن ذكر اسمه! هل ما دار بينهما صورة مصغّرة عمٌا يدور في الخفاء من علاقات حميميّة بين الدول العربية والدول المعادية للفلسطينيين؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.