شعار قسم مدونات

هل يمكن للإنسان أن يكون "ساق البامبو"؟

blogs تأمل

يولد الإنسانُ حراً طليقاً يُعانق الحياةَ بملءِ أحاسيسهِ ووجدانه، ويبدأ تجربته الفريدة، في محاولة لإيجاد معنى لها، وللوجود حوله. كأنما كتب عليه البحث طويلا! والأمر كذلك، فلن تكفيه تجربة واحدة لإدراك ذلك، يحتاج إلى تراكمات عديدة، تأملات عميقة، وسلسلة من "الفعل/التجربة" وتكرار "الفعل/التجربة"، ليعي ماهيته وخيارات حياته المهمة، لن تكفيه حياة واحدة للوصول إلى هذا المستوى من الإدراك، لكن بمقدوره ردم بعض الهوة بما يوفره له "الفرد الآخر" معه في الاجتماع البشري، فلو لم تكن علاقة التأثير والتأثر بين الأفراد والمجتمعات لما استطاع أحد أن يعيش، ولا أن يشكل حضارته على تراكمات تجارب الآخرين السابقين، لكن يبقى الإنسان محافظا على خصوصية معينة، تتعلق بهويته وكينونته الفريدة.

حينما نولد في مكان ما، فكأننا ننبث من تربته، ونضرب بجدورنا عمقها الدفين، فينشأ بيننا وبينها، أي الأرض/المكان، شعور دفين في دواخلنا، شعور الانتماء، الاحتواء، الاحتضان، الأمان. كما يقال: الذي لا يستطيع النظر وراءه، سوف لن يصل إلى وجهته أبداً! إن الاعتراف بالأصل سبب في استقبال الحياة بعنفوان كبير. ولا شكّ أن هذا الشعور الدفين في اللاوعي الإنساني، هو الذي يدفعه إلى تعريف نفسه، بنسبها للأرض/للجغرافيا، فيقول مثلا، أنا إفريقي، أو أوروبي، أو أسيوي…، فيشعره ذلك بالثبات والأصالة والتموضع في جهة ما على هذه الأرض، والأمان كلما علم أنه ليس دخيلا، وأن الجميع جزء منه، حينها يحس أن أصالة الأرض الذي ينتمي له، تجري في عروقه دون توقف.

الرواية تناولت بالأساس موضوع حساس جدا، ومتجذر في نفوسنا الدفينة سواء اعترفنا بذلك أم لا؟ لكن يبقى أمرا واقعا لا مفر لنا من الوقوف عنده، ومحاسبة مجتمعاتنا على مثل هذه الأفكار

لكن ماذا لو وقع العكس؟ ماذا لو كان انتماء الانسان سببا في عذابه المستمر وإحراجه الشديد، له ولغيره؟ ماذا لو ضاق بالإنسان مكان انتمائه؟ هل الانتماء للأرض وحده، كفيل بالإحساس بالحياة، بالأمان؟ ثم ماذا يعني الانتماء حينما يكون معيارا للإقصاء في مكان آخر على الأرض التي تجمعنا جميعا. حينها تكون الهوية قاتلة بتعبير أمين معلوف! في تلك اللحظة بالذات، عندما تتراقص حولك كل هذه الأسئلة، وتغرق في عمقها، يقول لسان حالك: "لو كنت مثل شجرة البامبو لا انتماء لها، تقتطع جزءاً من ساقه، نغرسه بلا جذور في أي أرض، لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة، تنمو من جديد في أرض جديدة بلا ماض، بلا ذاكرة، لا يلتفت إلى اختلاف أناس حول تسميته، كاوايان في الفلبين، خيزران في الكويت، أو بامبو في أماكن أخر…".

أزمة الهوية؟

الهوية تشكل قضية حساسة لما لها من علاقة وطيدة بآل "هو"، بل هي التعبير الدقيق عنه، تناولتها أعمال متعددة، أدبية وفكرية وسياسية واجتماعية وغيرها، من هذه الأعمال، رواية ساق البامبو للكاتب الكويتي سعود السنعوسي. الحاصلة على جائزة البوكر (جائزة الرواية العربية العالمية) للعام 2013، وهي بالإضافة إلى أسلوبها البسيط/الممتنع الذي جمع بين الروعة السردية والصور الشعرية المتميزة ما جعل لغته بدرجة عالية من الفنية المتقنة، تكتنز مواضيع ذات الصلة بالفكر والفلسفة والفنية التي تدل على عمق تكوين الكاتب وسعة استدعاءاته المتنوعة، وكل هذه المواضيع ليست من باب الترف بل هي وقائع مبنية على تجارب شخصية مكنت الكاتب من إضفاء الواقعية على القضايا التي تناولها في روايته البديعة.

الرواية تناولت بالأساس موضوع حساس جدا، ومتجذر في نفوسنا الدفينة سواء اعترفنا بذلك أم لا؟ لكن يبقى أمرا واقعا لا مفر لنا من الوقوف عنده، ومحاسبة مجتمعاتنا على مثل هذه الأفكار التي كان يجب القطع معها منذ زمن بعيد جدا، موضوع الهوية والعنصرية التي سببها الفوارق الطبقية في المجتمع الكويتي. ومن خلال هذه النقطة المركزية ينطلق الكاتب ليعمم الفكرة على بقية المجتمعات. مشكلة اجتماعية شائعة في المجتمع الكويتي، لكن ليست حكرا عليه، من خلال شخصية عيسى الرئيسية في الرواية، الشاب التائه بين هويتين ووطنين ودينين.

الرواية تساءل الوعي الجمعي للمجتمعات الإسلامية-العربية، وبالخصوص الجمعيات الحقوقية التي تدعي في ظاهرها أنها تدافع على الإنسان مجردا من كل لقب وجنسية وقومية ولون وعرق…، كما حدث مع "هند" عمة عيسى الناشطة الحقوقية التي فشلت في نهاية المطاف في الصدح بحق انسان ولد من أبوين مختلفين واحد ينتمي لمجتمع من درجة أ وأم تنتمي لمجتمع من درجة ب على حد تصورهم. الرواية استطاعت أن تكشف عن أحد أهم الأدواء الخفية في مجتمعاتنا، وعالجته في بشكل درماتيكي متميز يجعلك تعيش لحظة بلحظة تفاصيل حياة الشاب المحزنة، وتتخيل حجم المعاناة النفسية التي عاشها في بلده الأم، وبلده الثاني الذي سافر إليه أساسا من أجل تغيير وتحسين أوضاعه، فإذا به يجد الشي نفسه، أو وضع أشد سوءا من وضعه السابق، يعيش حياة خالية من (المعنى)، (الهوية)، (المستقبل)، وأهم شيء (الكرامة)، تتشابك مع هذه المعاناة معاناة أخرى على شكل هواجس تتعلق بالاختيار، بين الحب والكره، بين الانسجام والعزلة، بين التصور المسيحي والتصور البوذي والتصور الإسلامي عن فكرة الاله. بالإضافة إلى وحشة الغربة في بلد لا يريد أن يعترف بأبسط حقوق أفراده.

كل هذه الإشكالات التي عاشها عيسى على شكل تحديات حقيقة وأخفق في تجاوزها رغم كل المحاولات سواء منه أو من أصدقائه، أو من عائلته التي تتردد في ذلك كثيرا، كلها بائت بالفشل لينتهي بفكرة مهمة جدا بالنسبة إليه مفادها: "أن ساق البامبو لا يمكن أن تنبث إلا في بيئتها الأصلية الأسيوية (الفلبين)". لست أدري هل نفسية الكاتب هي من غيرت مجريات هذه الرواية، بعدما لاحظ وعلم أن وضع مجتمعه ومجتمعاتنا كلها تبعا لن تتغير مهما حاولنا، وكونه عرفا ثقافيا لا يمكن القطع معه نهائيا، في ظل جبروت سلطة الأعراف، وهي نفسها التي جعلته يخلص بفكرته تلك عن استحالة الجمع بين هويتين مختلفتين في كل شيء. لا يكمن التحدي في: هل بالإمكان الجمع والعيش بهويتين؟ بل في: هل يمكن تغيير التصور السائد في مجتمعاتنا والذي ينم على تجذر العنصرية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.