شعار قسم مدونات

هوية متأرجحة بين البين!

blogs امرأة

من أين أنت؟.. لطالما أربكني الناس بسؤالهم "من أين أنت؟"، فبعض الإجابات حياة كاملة، وشريط إخباري تاريخي حزين، مليء بالأحداث السوداء، كنت ألتزمُ الصمتَ لثوان، وبعض الثواني دهر، وبعض الدهر سويعات قليلة، كأن تبحث عن إجابة في داخلك فلا تجدها، من أين أنا؟ ومن أنا؟ ولست أنا بأنا ما زلت أنا هنا. عند الإجابة؛ يسترجع القلب حبه، وتسترجع الذاكرة كل المحتوى، ويترقب العقل مَنطَقة المنطوق، فهل أنا من تلك الأرض البعيدة التي لم تغادر ذهني لكنها لم تأتِ على ناظري، أم أنني من تلك البلاد الأخرى التي كانت الشاهد الأول على أنفاسي الأولى حيث التقطها هناك لكنني اختنقت فيها بعد حين. 

على أحاديث القوقاز جُبلت فطرتي، فأصبحت أرى الشيشان بعيْني جدتي لا بعيني، وأكلت ثمارها بمخيلة جدي، وزرعت أرضها بفأسه لا بفأسي، لكني لن أفقد ثمارها ما حييت. بعض الأوطان كثغرة دموية محتجزة داخل زاوية صغيرة من رأسك، لكنها لا تنفك عنك ولا ترحل، وتبقى أنت سجين لحظة من قدر بائس، فرض عليك أن تكون بين البين، ويتراقص قلبك للحنين لا يشبه أولهما الآخر، وتبقى بين ثقافتين مختلفتين لا يربط بين أولها وآخرها مقدار شعرة، لكنك ومن داخلك تعشق الأرض كلها وأينما حللت تشرق. 

 

لا يزال الناس يخونوننا إن قلنا من نحن ومن أي الأوطان أتينا، ولا يزال الناس يتهمون جوفنا بالغدر إن بُحنا بحبّنا إلى تلك الجبال الوعرة، ولا يزال الناس يزدرئوننا إن وضعنا صورة مدينة مهجورة كنا في أحد الأيام أهلها وحراسها

أتيت الحياة على غناء جدتي باللغة الشيشانية، ومسكت كتبي العربية في صفي الأول أتعلم أناشيد الصف الأول باللغة العربية الجميلة، لكنني عندما كبرت فقدت شيئًا ثابتا كنت أقف فوقه باتزان، كان التأرجح مصيري الدائم، في كل أرض ومع كل شعب، تعلمت الشيشانية لكنني لم أتحدث بها طويلاً ففقدتها مع سنين العمر الفائتة، تعلمت العربية وتمكنت منها لكثرة الممارسة، لكنني لم أكن شيشانية يومًا بين الشيشان لصمتي الساكن، ولم أكن عربية يومًا بين العرب لثرثرتي الملغومة، فَها أنا بين البين مرة أخرى. 

 

أقول دومًا أن هوية الإنسان أخلاقه، لكن الواقع مختلف جدًا، فالمسلم ينظر إليك بمدى تمسكك بديانتك، وغير المسلم ينظر إليك بمدى مرونتك في أحكام ديانتك، والملحد ينظر إليك بمدى توافق أفكارك مع أفكاره. الشرقي ينظر إليك بمدى وطنيتك، والغربي ينظر إليك بمدى حريتك، وفي نهاية المطاف كله فإن لا أحد ينظر إليك على أنك أنت كما أنت. عندما تقتحم الحروب حياتنا فإننا نسير على سبيل التخلي، نتخلى عن أحلامنا، عن أرضنا، عن ركننا القديم، عن نافذتنا الروائية، عن أيادي أحبتنا، وكأننا ننسحب من تاريخنا ونُبعَث إلى حلمٍ جديدٍ وأرضٍ جديدة، ركنٌ جديدٌ ونافذةٌ صامتة، وأيادي غرباء لم نكن يوما نعرفهم، لكننا نُسأل عند كل حدثٍ غريب. 

 

أقطن في أقصى بقعة جغرافية من شمال الكرة الأرضية، وما زلت إلى يومي هذا أخاف عندما يسألني أحدهم من أين أنت؟ فأنا بلا ماض لو قلت بأنني سورية، وأنا بلا عرفانٍ لو أنّي قلت شيشانية، وأنا بعد سنين قصيرة خائنة إن قلت بأنني نرويجية، وتلك اللعنة ستطول أطفالي بلا شك، هؤلاء الصغار الذين سيكبرون ويترعرعون هنا فوق أرض النرويج، سيسألهم الجميع من أين أنتم؟ وسيصمتون طويلاً كما فعلت أمهم، هل هم من النرويج التي قدموها في عمر العامين، أم أنهم من سوريا التي لم يروْها، أم أنهم من الشيشان التي يرونها على التلفاز ليلاً ونهارا. 

ويكأنّ الإنسان فوق ثروةٍ كبيرةٍ لكنّه فقيرٌ ينتمي لأكثر من وطن، يحملُ في أوراقه الرسمية أكثر من وطن ولا يدري على أي الأوطان يبكي، أيبكي على وطن مدمر، أم يبكي على وطن محاصر، أم يبكي على وطن منفي لا تعرف قدماه قبلته إلا على الخرائط. ولا يزال الناس يخونوننا إن قلنا من نحن ومن أي الأوطان أتينا، ولا يزال الناس يتهمون جوفنا بالغدر إن بُحنا بحبّنا إلى تلك الجبال الوعرة، ولا يزال الناس يزدرئوننا إن وضعنا صورة مدينة مهجورة كنا في أحد الأيام أهلها وحراسها، ولا يزال الناس يلعنون هويتنا إن قدّمنا إحداها على الأخرى، ولا يزال هذا القلب لا يعرف من أنا ومن أين أتيت قبل عشرين عاماً ودهرًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.