شعار قسم مدونات

ما الذي يريده منك رئيسك في العمل؟

blogs عمل

قد تصنع العجب، تخرِق الأرض وترقى إلى السماء، تُشعل أصابعك شموعا، تنحت من الجبال حلولا وتحفر الأرض بحثا لتأتي بما لم يأتي به من سبقوك في الشركة، قد تُتقن كل أعمالك وتُرضي كل الأطراف وتحاول جاهدا تفادي أخطاءك وتعين زملائك، قد تصبح عمودا من أعمدة الشركة لا يُستغنى عنك في كل صغيرة وكبيرة، أكثر من ذلك قد ترضي أعتى زبناء الشركة وأكثرها تطلبا وقد يثني عليك في اجتماعاته مع رئيسك ويطلبُك بالاسم لقضاء عمله والوقوف على متطلباته، ولا يرضى عنك رئيسك في العمل، فما الذي يريده منك؟

إن علاقة الموظف برئيسه أخذت حيزا كبيرا في هذا العصر، وربما تجدها أكثر العلاقات إشكالا وغموضا، لا يحدها منطق ولا يجاريها قانون، ولو كان ابن خلدون حيا لخصص لها فصولا في كتابه، قبل أعوام حصلت على شهادة في التسيير تحسبا للزمن وما يأتي به المستقبل، كنت أقول لعلني أكون مستعدا إذا ما عُرض علي منصب مسؤولية وقيادة، مع مرور الوقت وجدت أن خير المناصب ما ارتبط بالمجال التقني، تكون حينها مطلوبا في مجالك لا يستغنى عنك بسهولة، أما الرؤساء فهم في الغالب بيادق بيد المدير يغير من يشاء كيفما شاء، درست التسيير لأفهم رئيسي في العمل كان ذلك جوابي كلما سألني أحدهم عن تلك الشهادة إذا رآها في سيرتي الذاتية.

بعد الكثير من المطالعة والتعامل مع مختلف الأشكال والألوان من الرؤساء، نستطيع القول أن الرئيس هو رجل مشغول طوال الوقت لدرجة أنك لن تجد مكانا شاغرا في جدول أعماله للاجتماع به

والحقيقة أني لا زلت لم أفهم رؤسائي في العمل كما ينبغي، ويصعب حد التصرفات الإنسانية بدراسات على الورق، لا بد من التجربة ومن التعامل معهم، كأنك في حرب يصعب التوقع فيها والنتيجة لا تراها إلا بعد انتهاء الحرب، ليس لديك وقت لتجربة أفكارك، لسوء حظنا ليس هناك رؤساء كوباي من الفئران يسهل اختبارهم، يبقى الأمر الإيجابي الوحيد بالنسبة لنا والوتر الذي يمكن العزف عليه هو أن أمراضهم على كثرتها واختلافها تتشابه، تتكرر كمشاهد سينمائية سبق لك أن رأيتها في مكان ما.

أنا متأكد أن رئيسك كجل الرؤساء يطلب منك عملا قبل خمس دقائق من انتهاء دوامك، يتصل بك في بعض الأحيان مبكرا أو متأخرا أو في نهاية الأسبوع ليطلب منك تقريرا لن يقرأه في الغالب، أنا متأكد أن رئيسك يدعك تجيب الزبون وهو في نسخة الرسالة ثم يجيبك بكم من الملاحظات الزبون نفسه لم يلقي لها بالا، أو ربما يجيبك برسالة قصيرة بعد أن تفصِّل وتُبدع في حل مشكل ما والنتيجة تكون ظاهرة جلية كالشمس، فيجيبك "هل أنت متأكد مما قلت ؟" يطرح عليك غالبا أسئلة لا علاقة لها بالموضوع فيتوجب عليك الجواب والتفصيل وربما تعليمُه أيضا.

أزمة هرمونات، ذلك هو التفسير الوحيد الذي وجدته يليق بتلك النوبات التي تنتاب الرؤساء في العمل تجاه الموظفين، هرمونات زائدة طائشة تدفعه إلى أفعال صبيانية يشبع بها غريزته السلطوية ونزوة السطوة لديه، أغلب الذين تأتيهم هكذا نزوات تجدهم هم كذلك مضغوطين من رؤسائهم أو من الزبون أو ممن لديه الحق عليهم، عقدة الشرطي الذي يقمعه العميد ويقمع بدوره الشعب ليفرج عن نفسه ولو قليلا.

يومُ السعد وذروة النشوة اليوم الذي يُنقِّب فيه وراءك ويحاول جاهدا ايقاعك كعادته فيجد خللا ما ولو بسيطا، يقف يومها شامخا، يأتي مبكرا ليلقي عليك خطابه ونصائحه التي غالبا تجد بين أذنيك طريقا سيارا سريعا يجعلها تدخل من أذن وتخرج من الأخرى دون أثر، لا وقع لها في نفسك لأنك تعلم أن مصدرها سوء نية وهرمونات زائدة لا دخل لها بالعمل والمنطق، لا ينتهج أدوات علمية في تنقيبه بل يضع في سابق نيته الإيقاع بك واتهامك ثم يبدأ البحث على بركة الشيطان.

لو قُدِّر أن تكون لك قوة خارقة في العمل ربما طلبت كتابة الرسائل بطريقة جيدة، التواصل مهم، ولكن ما هي الطريقة الجيدة في نظر رئيسك؟ قد يقول رجل من الذين أنعم الله عليهم الطريقة الجيدة هي الطريقة الصائبة المنطقية العلمية، هي الصراط المستقيم الجلي الواضح ليلُه كنهاره، ذلك عند أهل العلم والمنطق، عند رئيسك الصواب ما وافق هواه، وأفكاره متغيرة بتغير مزاجه، هي ليست كحقائق الدنيا المطلقة التي يصل إليها كل عالم بعد جهد جهيد، إنما هي نوبات وجب عليك ضبطها وفهمها بمجرد النظر في وجهه أو حديثه صباحا.

باختصار وبعد الكثير من المطالعة والتعامل مع مختلف الأشكال والألوان من الرؤساء، نستطيع القول أن الرئيس هو رجل مشغول طوال الوقت لدرجة أنك لن تجد مكانا شاغرا في جدول أعماله للاجتماع به إذا كان الأمر متعلقا بالحديث عن امتيازاتك أو ترقيتك أو تحسين أوضاع المكتب والعمل، فاضي إلى أقصى درجة من أجل التنقيب وراءك واعطاءك نصائح بلا مناسبة، يتلذذ بطلب تقارير أو تكليفك بمهام لا تُقدِّم ولا تؤخر، مهووس بقراءة كل كلمة وسطر من رسائلك وما بين السطور من أجل تقديم ملاحظة لا تزيده إلا صغارا في عينك، هو حالة نفسية طائشة هو نفسه لا يتحكم بها تَخرُج رغما عنه لا بد من تشخيصها والتعامل معها دون مصارحته.

كان العالم غارقا في ستينات القرن الماضي في نوعين من التسيير الإداري، نظرية X التي تقضي بأن الناس بطبيعتهم كسالى ويتجنبون العمل فوجب إذن إخضاعهم بنظام إشراف صارم وعناصر تحكم هرمية سلطوية، ثم نظرية Y القاضية بأن جوهر الناس الخير والموظفون بطبيعتهم طموحون ولديهم دوافع ويتحلون بممارسات ضبط النفس، يجب فقط توفير الظروف المناسبة لهم وتقديرهم وفتح المجال أمامهم لإبراز قدراتهم.

أدت كلتا النظريتين إلى تأثيرات عكسية، ونتائج سلبية في إدارة الموارد البشرية، فبزغت في ثمانينات القرن نظرية Z لصاحبها وليام أوشي، استوحاها من الأسرة اليابانية التي تقوم على مبدأ احترام رب الأسرة الذي بدوره يكون مسؤولا ويشارك الأسرة في قراراته، ترتكز النظرية على تلقين الموظفين قيم الشركة وغلغلت فلسفتها في ضمائر الموظفين، فتجد لكل شركة مجموعة قيم تظهرعلى شاشات حاسوب كل موظف أو على شكل ملصقات بارزة على جدران البناية، على هذا الأساس تصبح كل فكرة وكل عمل يقوم به المنتمون إلى الشركة يندرج تحت إحدى قيمها، التي يعتبر الموظف نفسه جزءا منها.

لم تأتي هذه النظريات عبثا ولم تكن مجرد محاضرات يأكلون بها الخبز في الجامعات، نبعت عن حاجة إلى تقنين علاقة غامضة بين الموظف ورئيسه ومحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ذلك أن مردود الشركة كله وأرباحها واستقرارها على المدى الطويل مرهون بهذه العلاقة، ومن أجل ذلك ستتوالى النظريات والمحاولات ليس من أجل المدير والرئيس والمُسيِّرين ولا من أجل عيون الموظفين المساكين، بل من أجل البقاء، من أجل السفينة ومن عليها، أما الموظف المسكين فقد تعلَّم وأصبح أكثر نُضجا ولم يعد ينتظر مديحا أو حتى اعترافا، فالتصفيق والمديح يكون من نصيب المهرجين في السيرك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.