شعار قسم مدونات

عن مفهوم "المحافظة" في الغرب

مدونات - الولايات المتحدة

من الأخطاء المنهجية التي يقع فيها الكثير من المثقفين والمفكرين أولا، استيراد مصطلحات من الغرب دون فهم وتدقيق بمفاهيمها وثانيا، حتى عند محاولة الفهم فإننا غالبا، إن لم يكن دائما ما نسقط مفاهيمنا نحن على هذه المصطلحات. فمثلا عندما نستعمل مصطلح "التقدم" فنحن عادة ما نسقط عليه واقعنا. فالتقدم بالنسبة لنا يعني محاربة الفساد، فصل السلط، تنزيل ديموقراطية حقة في البلد وإصلاح التعليم… الخ. لكن مفهوم التقدم في الغرب لا يعني بالضرورة هذا.

فهو يعني التقدم التكنولوجي والمادي اللامحدود والغير منضبط واللاغائي. فالتقدم عند الشركات يعني زيادة حجم الربح السنوي ولو اضطرت إلى تسريح الآف العمال سنويا من أجل نقص المصاريف وإظهار الربح على الورق. وشركات مثل Apple وAmazon والتي رأسمال كل واحدة منهما يفوق التريليون دولار تتقدم بشكل مرعب في حين إان بعض عمالها يضطرون للمبيت في سياراتهم لعدم قدرتهم على دفع مصاريف الكراء.

المحافظة شيء رخو وسائل، يتغير تعريفه ومفهومه بتغير الزمن والأشخاص والمناطق. فهي ليست محافظة صلبة ذات مرجعية واحدة

بعد هذه المقدمة، يمكننا القول أن تعريفنا للمحافظة يختلف كثيرا عن تعريف الغرب لها. عندما نسمع كلمة المحافظة فإن لاوعيننا يذهب مثلاً إلى العصر النبوي أو العهود التي كان لنا فيها صولة وجولة. فالمحافظة بالنسبة لنا لها مفهوم محدد، وإن لم تحدد حدوده كلها، ومفهوم صلب وتابت يمكن حصره ولا يتغير بتغير الزمان والمكان. فمن كان مرجعه العصر النبوي مثلا فسيكون مرجعه الآن ويكون مرجع من يأتون من بعده. أما في الغرب فبسبب غياب المطلقات وحلول السيولة الفكرية والقيمية وانتشار قيم الفردانية وارتفاع معدلات العلمنة، فمصطلح المحافظة أو المحافظون له معنى مغاير. ولنفهم مفهوم المحافظة في الغرب سنضرب المثل الآتي: 

كان تأثير التدين في مجتماعتنا العربية مثلاً خلال النصف الأول من القرن العشرين ضعيف جدا؛ اللهم من بعض شذرات وبقايا من تدين طبعت عادات ومفاهيم المجتمع وتوارثت عبر أجيال. وكان الناس يعيشون بتقاليد بعضها صالح والآخر طالح. وكلنا كبرنا ونحن نسمع عن خيرية الزمن السابق وخيراته وحسن خلق أهله… الخ. والملاحظ أن كل جيل تجده يحن إلى شبابه وما سبق من تاريخه ويعتبره أحسن من حاله المعاش. والحالة هذه تجد كل جيل يعيب على من بعده تصرفاته وقلة أدبه، ويحن إلى زمنه هو، وهي هنا أمور نسبية تعود لرؤية الشخص وليس لمطلق عام. وبهذا المعنى، فالمحافظة شيء رخو وسائل، يتغير تعريفه ومفهومه بتغير الزمن والأشخاص والمناطق. فهي ليست محافظة صلبة ذات مرجعية واحدة، الرسول والعصر النبوي مثلا، بل هي محافظة متحركة نسبية. لكن المشترك فيها إنها ردة فعل على تغير حال المجتمع بطريقة قد لا تروق للشخص. ومن تمة فهي حركة للخلف تتسم بالسلبية والنكوص والهروب إلى الرحم الأول. أما المحافظة التي تنطلق من مرجعية مطلقة فتصبح حركة نحو الأمام تتسم بالإيجابية والقلق أحيانا لكن بالفعل والتغيير عِوَض النكوص والهروب.

فالمحافظة في تقديرنا مفهومان يختلفان باختلاف نوعية المرجعية. فإن كانت المرجعية ثابتة، كالمرجعية الإسلامية أو المسيحية مثلا، فإن المحافظة تكون واضحة المعالم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان. وإن كانت المرجعية سائلة، فإن مفهوم المحافظة يكون سائل وغير منضبط ويتغير من مكان لمكان ومن زمان لزمان وحتى من شخص لآخر. ولأن السيولة هي الثابت الوحيد في الغرب الآن، فإن تعريف المحافظة يصبح أمرا عسيرا وصعب لأن المفهوم في حالة تغير دائم. فبالنسبة للإنسان الغربي الآن الذي يفتقد إلى مطلقات ويعيش داخل بوثقة العلمانية الشاملة، فمرجعية المحافظة لديه إن كان متقدما في السن هي سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فما كان سائدا ساعتها من أخلاق وبقايا تأثير المسيحية يعتبر مرجعيته للمحافظة.

ولأن المجتمعات الغربية ساعتها كانت متجانسة، فإنك تجده أشد الناس كرها للمهاجرين اليوم وتصبح المحافظة لديه تعني العودة إلى مجتمع كان البيض فيها أغلبية وكان الإجهاض محرما وكان الشذوذ منبوذا ولم تكن العلاقات الجنسية بهذا التحرر الذي نعيشه. وبالمناسبة فظواهر المحافظة تلك هي ما يخدع الكثيرين من المهاجرين الجدد والمسلمين في الغرب في التيارات wa الأحزاب المحافظة. وبهذا التعريف فإن المحافظة في الغرب ليست شيء واحد.

بل ستجد أن لكل جيل مرجعيته المحافظة التي يرتكز عليها. ولذلك فإن المحافظة هنا تصبح سائلة ومتغيرة. وما يتبناه حزب محافظ اليوم سيتخلى عنه غدا وما يناهضه اليوم سيتبناه غدا. وشخصيا أتوقع أن تنفتح الأحزاب المحافظة في الغرب على الشواذ وتغير برامجها للقبول بالإجهاض والموت الرحيم… الخ حالما تتغير البنية الديموغرافية للمجتمع بما يغير مرجعيتها المحافظة. وقد بدأنا نرى بعضا من هذا التغيير في المجتمع بشكل عام بل وحتى في الكنيسة الكاثوليكية مع قدوم البابا الجديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.