شعار قسم مدونات

أورام فكرية خبيثة وصامتة.. لنستأصلها قبل أن تتمكن!

BLOGS تفكير

من فترة ليست بالطويلة تعرضت لموقف أثار حفيضتي في بادئ الأمر ولكنه جعلني فيما بعد أتعلم أمورا وأعيد النظر في أخرى، كان الموقف باختصار عبارة عن حكم جائر أصدره أحدهم في حقي من خلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي معتبرا إياي متكبرة وأحمل مواصفات الكبر والاستعالاء الموروثة عن انتمائي الريفي الأمازيغي. والحقيقة أن الأمر لم يكن بالشيء المفاجئ لأنه كان متوقعا جدا أن تتكون في أذهان بعض البسطاء المحدودين هكذا أفكار شمولية ذات الخلفية العنصرية التي تبيح لصاحبها أن يسقط ما أراده من صفات على جماعة بأكملها إرضاء لأصواته الداخلية المتعجرفة، خصوصا بعد ما تداولته القنوات الإعلامية بالمغرب من أخبار كاذبة مضللة عن الحراك الشعبي بالريف والتي كان هدفها الأساسي شحن الناس ضد الحراك لأغراض سياسية، ولكن ما فاجأني هو وجود بعض المثقفين والنخب الذين كانوا يشاركون توجسهم من تعصب وعنصرية الأمازيغ لِأن لا يخرج عن السيطرة وتستغله أياد خارجية للتفرقة بين فصين لرئة واحدة وهما الأمازيغ والعرب في المجتمع المغاربي. والأمر كان يجعلني أتساءل دائما "لماذا أشعر أنني أتعرض للتمييز العنصري -كوني أمازيغية ريفية- كلما التمست خوفهم من أن أكون عنصرية ومتعصبة؟ لماذا أشعر أن في تخوفهم اتهام ضمني لي بالتعصب والعنصرية؟".

مما لا شك فيه أنه لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، وأن الناس بعلمهم وأخلاقهم لا بجلودهم وجيناتهم ولغاتهم، وأن الاعتقاد بأن هناك صفات موروثة في طبائع الناس المنتمين لجماعة عرقية معينة تجعلهم أسمى أو أدنى من غيرهم هو تفكير عنصري نابع من عقلية متخلفة يعشعش فيها الجهل ويربي فيها فراخه، ولكن الموقف الذي ذكرته أعلاه وما تبعه من تبعات جعلني أفكر في بعض الأمور التي تحدث في مجتمعاتنا وتخلخلها على غفلة منا، حتى تأخذ جماعة في نفسها على أخرى نتيجة لسوء فهم لا يستحق، ففكرت في أجوبة لأسئلتي ووجدت أننا في الحقيقة لسنا نتضرر من العنصرية بقدر ما نتضرر من "العنصرية المضادة"، وهذا هو المصطلح الذي وجدته يصف الأمر، أن يتصرف أحدهم بعنصرية تجاه الآخر المختلف عنه ليس لأنه يتعمد التصرف كذلك ولكن لأنه يحمل أفكارا مسبقة عنه مفادها أنه عنصري، فيشهر في وجهه سلاح العنصرية المضادة منذ البدء ويحصل الصدام، وعادة ما تكون هذه الصدامات لا تحمد عقباها لأنها تتأصل في لاوعي الشخص كالورم الخبيث وتصبح مرضا معديا يتنقل من شخص لآخر، وهكذا تحصل الخلخلة بين عناصر مجتمع واحد في وقت أشد ما نحتاج إليه فيه هو الاتحاد والإخاء.

قال ناثان روتشتاين: "الأحكام المُسبقة هي إلتزام عاطفي ناحية الجهل"، فالأحكام المسبقة التي قد تزور أيا فينا تجاه آخر بمجرد أنه مختلف من شأنها أن تحيلنا إلى طينة المتعصبين دون أن نشعر

إن طرحي للموقف أعلاه كان لهدف واحد وهو توضيح مالذي أدى بي إلى التفكر في هذه الظاهرة بهدف إصلاحها وليس لإثارة البلبلات كما سيؤولها البعض، والشاهد هو التسليم بكون العنصرية والعنصرية المضادة أمراض قد تكون في ذهن أمازيغي أو أوروبي أو تركي أو عربي أو فارسي.. فهي أمراض فكرية صديقة للجهل تلحق به أينما عشعش ولا علاقة لها بأصل الشخص و فصله. وكما توجد العنصرية المضادة، يوجد التعصب المضاد أيضا، وهذا أشمل لأن المرء قد يتعصب لأي فكرة يقتنع بها، وأشد لأنه يقطع السبيل على كل حوار من شأنه أن يتقدم بوعي الناس درجات، فيخلق الخلافات التي نراها اليوم في كثير من المواضع، وأقرب مثال هو الفصائل الطلابية بالجامعات، هذه الفئة من المجتمع التي من المفترض أنها بلغت مستوى تعليميا يجعلها مدركة أن الاختلاف حول الآراء أمر طبيعي بل ومهم لأنه يخلق التنوع الفكري ويؤسس للتنافسية والابتكار، ولكن للأسف لا زلنا نرى ممارسات تبين أن معظم هذه الفصائل على خلاف دموي ليس لأن كلا منها متعصب لفكره فقط، بل لأن كل طرف يشهر أسلحة التعصب المضاد لأنه مقتنع أن الطرف الآخر هو المتعصب وعليه يجب أن يتصرف على هذا النحو لا ذاك.

والفصائل الطلابية بالجامعات أيضا مثال فقط فالتعصب والتعصب المضاد كما ذكرت سلفا أمراض يسهل عليها الاستقرار في بيئة مهّدَها الجهل والفكر المشوه من قبل، فتتكون ملامح التعصب المضاد في خاطر اللامتدين تجاه المتدين لأنه ضن سلفا أنه متعصب ولا يصلح للنقاش والعكس صحيح، وكذلك في خاطر السلفي ضد الحداثي أو العكس، وفي خاطر اليميني ضد اليساري أو العكس، وفي خاطر جماعة عرقية ضد أخرى.. بينما الأصح هو الجلوس للنقاش وأنت مجرد من كل فكرة مسبقة اعتباطية، غير موضوعية وجاهلية عن من يخالفك، فالاختلاف نعمة قابلة للتحول إلى نقمة إذا ما قدرها الناس حق قدرها وما عرفوا آدابها و قواعدها.

إن ما أرمي إليه هو ضرورة التفطن لهذه الظاهرة لأنها فعلا تنخر في مجتمعاتنا بهـدوء مرعب، لأنها تجعل المرء يقع تحت سطوة التعصب على غفلة منه، بمجرد أنه يتجلد ويتشدد ويحمل في قلبه غضبا على مخالفه معتقدا أن تلك ردة فعل طبيعية يستحقها المخالف لأنه يحمل أفكارا عرف على حامليها أنهم متعصبون، كل هذا يأخذ حيزا لا يستهان به في اللاوعي حتى قبل أن يجلس الاثنين إلى طاولة النقاش ويتعرفا على ما في أذهان بعضهما البعض، ويا ليت الأمر يبقى غضبا في اللاوعي، لكنه في كثير من الأحيان يتحول إلا كراهية وحقد تلسع ألسنته الناس على أرض الواقع.

ختاما، وكما قال ناثان روتشتاين: "الأحكام المُسبقة هي إلتزام عاطفي ناحية الجهل"، فالأحكام المسبقة التي قد تزور أيا فينا تجاه آخر بمجرد أنه مختلف من شأنها أن تحيلنا إلى طينة المتعصبين دون أن نشعر، ولأننا نمر بمرحلة حساسة جدا، تؤثر فينا أمراض بسيطة وتهدد صحة مجتمعاتنا، ولأن الإعلام الرسمي في بلداننا شغلته أمور أتفه عن تنبيهنا لهذه الأمور، والتعليم مكتظ بدروس لم يبقَ معها حيز لتعليمنا كيف نتعامل مع هذه الأمراض، وجب علينا نحن أصحاب الأقلام البديلة أن نبذل جهد أيماننا للتوعية بها ومحاربتها، علنا ننجح في طرد المجاهل المتربصة ونوفي القلم الحر حقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.