شعار قسم مدونات

انفصام العقل العربي المعاصر بين الخطاب العقلاني والأسطوري

blogs مقهى

إن الثورة الفكرية والعلمية والتكنولوجية لكي تتحقق معالمها يجب أن تسبقها روح فكرية وعلمية، وعلى هذا المنوال يمكن تشبيهها بالثورة السياسية الناجحة التي بدورها يسبقها وعي سياسي يحول دون تبديل ديكتاتوري بآخر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان العلماء والفلاسفة والأدباء في عصر النهضة والأنوار الأوروبيين يتطلعون بغزارة انتاجاهم إلى بزوغ عصر جديد، وعلى هذا الأساس قامت الحداثة الغربية كفعل حضاري امتد على ما يزيد عن خمسة قرون، ابتداء من القرن السادس عشر بجهود حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، ثم حركة الأنوار والثورة الفرنسية، تليها الثورة الصناعية، فالثورة التقنية، ثم الثورة المعلوماتية.

إنَ عيش حواضر العالم العربي المعاصر في ظل الثورة الفكرية والعلمية والتكنولوجية الغربية، رهين بهدم أسس التفكير الأسطوري واللاعقلاني، من خلال نشر الثقافة الفكرية والعلمية والوعي بها، فمن أكبر المتناقضات اليوم أن يجهل الفرد الناميُ للثقافة العلمية، وفي الآن نفسه يوظف وسائلها، وهذا هو حال العقل العربي اليوم! فهل للتفكير العقلاني والأسطوري أن يجتمعا ويتفاعلا في عقل واحد؟ ومن يحول دون تحقق هذه الثقافة الفكرية والروح العلمية، في حواضر العالم العربي المعاصر؟ هي أسباب وعوامل كثيرة تتجلى في الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع، والتي تعبر عنها طقوس وأساليب الحياة، ومؤسسات المجتمع، التعليمية والاجتماعية والدينية والسياسية، ويمكن تلخيصها بشكل مقتضب فيما يلي:

هناك سبب وعامل مهم في اغتراب العقل العربي المعاصر، والذي يكمن بالأساس في طريقة تكوين أغلب الطبقة المثقفة أو ما يطلق عليهم اسم النخبة، فأغلب هؤلاء تم ويتم تكوينهم في سياق أقطاب وأيديولوجيات منغلقة

السبب الأول، والرئيس في ذلك، يكمن في الغياب التام للنزعة الفكرية والعلمية لدى أغلب الحكومات السياسية العرببية والإسلامية ومن يديرون الشيء العمومي، وكذا افتقارهم لسياسات واضحة يختزلون فيها إرادتهم نحو الاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجي، وعلى هذا الأساس تكون السلطة هي المسؤولة عن الافتقار لهذه الروح الفكرية والعلمية، وكان من المفروض على هؤلاء الالتزام بتحقيق الشروط اللازمة لبزوغها، وكان من المفروض أيضا الارتقاء بالتعليم بجميع مستوياته، باعتباره يشكل الأساس الحقيقي للتقدم والازدهار لدى أغلب الأمم المزدهرة والمتقدمة في يومنا هذا، والتي أغلبها تشترك في نفس الخصائص والموارد الطبيعية والمادية والبشرية مع حواضر العالم العربي المعاصر، أو أقل في بعض الأحيان. تلك الأمم التي تنطلق من القاعدة الأساسية في التقدم والازدهار وهي امتلاك قاعدة بشرية مثقفة مشبعة بالروح الفكرية والعلمية والتكنولوجية.

وهذا لا يعني أن حواضر العالم العربي المعاصر لا تمتلك طبقة مثقفة وعلماء ومفكرين عظماء، وإنما العكس صحيح، وتشهد على ذلك أبحاثهم ودراساتهم وإنجازاتهم المبهرة في شتى بقاع العالم، وأغلبهم ساح في الأرض لأسباب تمثلت بالدرجة الأولى في تدهور الأوضاع السياسية، واضمحلال أمور أصحابها، وتدني قيمة العلم والعلماء، عند العامة والخاصة، وفضلوا الاشتغال من منطق الرؤية العلمية لوحدة الكون. وكذلك لا يمكن لأحد أن يتجاهل سببا وعاملا آخر ليس أقل أهمية من سابقه، ألا وهو الأسرة الخلية الصغرى في المجتمع التي تلعب دور التنشئة الاجتماعية الأولى التي يتلقاها الطفل في مساره التاريخي، هي تنشئة في غالب الأحيان تفتقر إلى نظام يراعي أهمية تنمية وصقل وتهذيب وإعداد الملكات الابتكارية والابداعية لدى الطفل، وتؤكد شخصيته الاستقلالية مستقبلا، وقدرته على مواجهة المواقف غير المألوفة داخل وخارج محيطه الاجتماعي.

لكن للأسف غياب كل تلك الأسس والمقومات الأساسية في تكوين وإعداد الطفل، تنتج لنا فردا مهيئ نفسيا واجتماعيا للخضوع والانقياد التام، لكل أشكال التطرف والإرهاب والفكر الظلامي، لأن الخلية الصغرى في المجتمع قد عطلت له ملكات العقل والنقد تعطيلا كاملا، مما يجعله مع مرور الوقت عبارة عن خزان مملوء بمجموعة من الأفكار والأيديولوجيات المركبة والمتناقضة، ومغلف بحصن من الدوغمائية والغوغائية، يصعب إعادة تحديثها وفق آخر المستجدات الفكرية والعلمية والتكنولوجية التي تنمو وتتزايد بوثيرة سريعة. وكذلك هناك سبب وعامل مهم في اغتراب العقل العربي المعاصر، والذي يكمن بالأساس في طريقة تكوين أغلب الطبقة المثقفة أو ما يطلق عليهم اسم النخبة، فأغلب هؤلاء تم ويتم تكوينهم في سياق أقطاب وأيديولوجيات منغلقة على ذاتها، منها من ينتصر للأصالة والمعاصرة، ومن يحتمي وراء التراث، وآخر يحاول مسايرة التيارين معا، كل قطب يرى في نفسه أنه سيد الحقيقة.

من هنا ننتقل من أزمة الأجيال القديمة إلى أزمة الأجيال الجديدة، ويصبح جيل الكبار عبارة عن ظاهرة تهدد مستقبل العقل العربي، وعلى هذا الأساس تستمر الأزمة متخذة في كل جيل أو في كل نظام مجتمعي شكلا مختلفا، وقد تتباين من رقعة جغرافية لأخرى داخل حواضر العالم العربي المعاصر، وكذا مؤسساته الاجتماعية والثقافية والسياسية، هذه الأزمة اتخذت في الألفية الثالثة شكلا حادَا، وأصبحت تمثل مظهرا أساسيا من مظاهر الصراع الثقافي في هذه الحواضر، صراع عن نوع العقل المراد تكوينه.. فيكون الجيل الجديد الأكثر تضررا والأكثر اختناقا في هذا الجو الثقافي المكبوت، ويتم حرمانه من الجرعة الكافية لبعث روح الحيوية في الروح والعقل، التي يتمكن بفضلها هذا الجيل من أن ينفض عن نفسه كل أثار التبعية والعبودية لقدسية الأفكار الكهنوتية والغيبية، وكل أصنام الفكر التي تفرض عليه.

undefined

وكما يمكن إضافة سبب وعامل مهم أيضا، في اغتراب العقل العربي المعاصر، هو أن القراء والمطلعين على الثقافة العلمية والتكنولوجية محدود جدا، فنادرا ما تجد في هذه الحواضر المشتغلين والمهتمين بمجال العلوم الإنسانية والإسلامية والاجتماعية يطلعون ويواكبون آخر مستجدات الأبحاث والدراسات والعلمية والتكنولوجية المعاصرة، ولا جدال في أن هذا الأمر لا يقتصر فقط على هؤلاء، فمن الناذر كذلك أن تجد في هذه الحواضر الرياضي والفيزيائي والكيميائي والمهندس والطبيب يقرأ ويطلع على الكتب الأبحاث والدراسات الأدبية والاجتماعية والإنسانية، أو أن يبرز هو كذلك في ميدان اختصاص من غير اختصاصه الحقيقي. وكذلك هناك غياب شبه تام لفتح الجسور والتلاقح بين مختلف التخصصات والميادين الإنسانية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، وتلقي المعارف والأفكار العلمية في شموليتها باعتبارها تشكل روح العصر، ومحاولة تكوين عقل علمي قائم على العلم، لا يقتصر فقط على العلماء والباحثين في المختبرات العلمية بل على الجميع، وكذا فتح باب المساجلات والمناقشات والمناظرات العلمية والفكرية والأدبية للجميع، مهما اختلفت مذاهبهم واتجاهاتهم في التفكير.

فمن بين أهم الأسس والقواعد الرئيسية التي ارتكزت عليها النهضة والأنوار الأوروبيين، تلاقح الأفكار والمعارف باختلاف تخصصاتها الفلسفية والأدبية والعلمية والثقافة الشعبية… عن طريق فتح جسور بينها، وتم هذا الانجاز التاريخي المهم عن طريق التصنيف الذي قام به الفلاسفة العقلانيين للمعرفة في الموسوعات، و قيامهم بتشييد الصالونات والمعاهد والمراكز العلمية، بناء على أسس وآليات التفكير النقدي والإبداعي، مما جعل أفراد هذه الشعوب قادرة على التعقل استنادا على مبدأ تكوين الأفراد لأنفسهم بأنفسهم، وعلى هذا الأساس تصبح هذه الملكات والقدرات باطنية في ذهن وعقل الأفراد، أي تلقائيا في الإنسان، لا يعود محتاجا إلى أي عون خارجي.

وأخير يمكن إضافة سبب وعامل ليس أقل خطورة مما سبق، هو سبب قديم جديد فرض نفسه في هذه الأيام الأخيرة بشكل حاد، وهي عبارة عن أقلام وكتابات وألسنة حالات متطرفة، منها من له وزنه في المجتمع، ومنها من يرعى الشيء العمومي ترفض العلم الحديث والمعاصر من منطق ديني متزمت، ومنها من يصرح بشكل علني بالتشكيك والطعن في صعود الإنسان إلى القمر، وآخرون يعترضون عن مركزية الشمس، ويطعنون في نظرية التطور لتشارلز داروين.. وحجتهم في ذلك لا هي منطقية ولا هي علمية ولا هي فلسفية، وإنا تقوم على أساس الفهم السطحي للنظريات والقوانين العلمية والأخذ من المصادر الغير المباشرة، مما يكرس ظاهرة انفصام واغتراب العقل العربي المعاصر.

وفي الختام، إننا نستطيع أن نسترسل طويلا، وإضافة أشواط طويلة من تحليل وتفكيك العقل العربي المعاصر، واستنتاج العديد من الأسباب والعوامل التي تحول دون التأسيس لروح علمية وفكرية داخل حواضره، لكن حاولنا أن نقتصر على الأساس التي الذي تتفرع منه كل هذه العوامل والأسباب. إنها إذن معركتنا جميعا، في القضاء على جذور اغتراب وتشويه وصدأ العقل المغربي المعاصر، ابتداء من الخلية الصغرى في المجتمع، وانتهاء بالطبقة المثقفة أو بما يمكن أن نسميه ب النخبة، وأن نتصدى لها جميعا وبنفس الشجاعة والمرارة التي واجهها بها رواد فكر النهضة والأنوار الأوروبيين.. وهي معركة ينبغي أن ينتصر فيها الفكر التنويري والعقلاني، بل ينبغي أن ينتصر فيها الإنسان وفق الرؤية الفلسفية والعلمية لوحدة الكون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.