شعار قسم مدونات

القضية الفلسطينية وسؤال الحل

blogs فلسطين

في كل مرة تعصف بالقضية الفلسطينية عواصف الضغط والإكراه؛ ونعاني من تكاثف الأزمات والضغوطات، يتسلل إلى الذهن سؤال الحل المؤرِّق، ذاك السؤال الذي يُشعر المرء أنه قادر على الإجابة عليه ببضع كلمات وجمل يمكن رصُّها وتنميقها في زُخرفٍ من القول، ولكنها ليست كذلك، فإجابة هذا السؤال تحتاج إلى عملية تفاعلية بين التنظير والممارسة بصورة متناغمة وفق رؤية واضحة المعالم تُصاغ بناء على استراتيجية التراكم والتكامل لا القولبة.

 

في اعتقادي إن مسألة الحل نابعة من فكرة ظاهرها التناقض؛ وهي "الحل في اللاحل" بالمنطق المقولب الذي يخاله البعض من قبيل "المفاوضات هي الحل" أو "المقاومة هي الحل" بالمفهوم الجامد لكلا العمليتين، أي إن خلاصنا من هذا الهاجس يجب أن يكون في إيماننا الراسخ بأن عملية الحل للقضية الفلسطينية هي عملية تراكمية تأتي من خلال إتقان عملية "إدارة الصراع" التي تكون سمتها التراكم والاستمرارية وفق منظور ورؤية نضالية متكاملة، فمن يعتقد أن جوالات المفاوضات يمكنها أن تأتي بحل للقضية هو واهم كمن يعتقد أن حرباً ضروساً يمكنها أن تأتي بالحل أيضاً.

  

في حالتنا الفلسطينية، الأزمة معقدة ومتشابكة، إذ نحن لسنا فقط مجتمع تحت احتلال؛ بل سلطة تحت احتلالٍ أيضاً، وهذا التعقيد والمزج –الغير منطقي- هو الذي أنتج معضلة التداخل الوظيفي للمجتمع

وحتى نستطيع إتقان هذه العملية الطويلة "إدارة الصراع" يجب أن نتمتع أولاً بمجتمع قادرة على العمل بفاعلية ويستطيع تحمل تكلفة هذه العملية الشاقة، إضافة إلى قيادة تمتلك الرؤية والأدوات اللازمة لخوض هذه المعركة. إن من أبرز المشكلات التي تحيط بهذا السؤال الصعب أن زوايا النظر للإجابة عليه متعددة ومتشابكة، وتنطلق ابتداءً من قناعات وتوجهات كل منها يحتمل وجهاً من الصواب والخطأ، ولذا فإننا سنحاول الإجابة على هذا السؤال من زاوية التحليل الطبقي للمجتمع الفلسطيني، والدور المنوط بالنخبة، بعيداً عن هيمنة الخطاب الحزبي المؤدلج. وحتى يكون التحليل ذا معنى فإننا ننطلق من قناعة مفادها أن الأزمتان الرئيسيتان المعيقتان لقدرتنا على صياغة استراتيجية تمر بعملية "إدارة الصراع" للوصول إلى الإجابة على سؤال الحل؛ هما:

  

أولاً: غياب مفاهيم وممارسات الحكم الرشيد وانتشار ظواهر الفساد في مؤسسات الحكم: والحقيقة إن الأزمة الأكبر في هذا المضمار هي عملية الحكم تحت الاحتلال ذاتها، ولكن حتى نكون أكثر واقعية فإننا يجب أن نتعامل بمنطق الإصلاح لا الهدم.

ثانياً: غياب الاستراتيجية المؤسسية الجامعة للعملية النضالية بتفاعلاتها وأشكالها: إذ أصبحنا نعاني من مسألة الخلط في أهداف الممارسات النضالية ومدى قدرتها على تحقيق تلك الأهداف.

  

طبقة النخبة بديلاً عن الطبقة الوسطى..

في المجتمعات المستقلة؛ إحدى أبرز زوايا النظر إلى مدى حيوية المجتمع وقدرته على التطور وتحقيق تطلعاته هي النظر إلى حال الطبقة الوسطى–بمفهومها الاقتصادي والثقافي- فيه، فهي تُعد معياراً رئيسياً للحكم على فاعلية المجتمع وقوته، أما في المجتمعات المحتلة فإن تشكُّل الطبقة الوسطى خاصة –بمفهومها الاقتصادي- هو تشكُّلٌ كاذب وموهوم، فالذي يتحكم بطبيعة وجود هذه الطبقة هو الاحتلال الذي لا يمكن له أن يسمح بوجود طبقة وسطى قوية ومتماسكة. لذا فإن البديل المنطقي لمجتمع تحت احتلال؛ هو استبدال المفهوم التقليدي –الاقتصادي- للطبقة الوسطى بمفهوم ثقافي وفكري نضالي، إذ من السهل على الاحتلال التحكم في الحالة الاقتصادية، ولكن من الصعب عليه التحكم في المفاهيم الثقافية النضالية التي تعد اللبنة الأساسية لبناء مجتمع فاعل نضالياً.

 

ولكن في حالتنا الفلسطينية، الأزمة معقدة ومتشابكة، إذ نحن لسنا فقط مجتمع تحت احتلال؛ بل سلطة تحت احتلالٍ أيضاً، وهذا التعقيد والمزج –الغير منطقي- هو الذي أنتج معضلة التداخل الوظيفي للمجتمع؛ هل وظيفتنا التخلص من الاحتلال أم العيش برفاه واستقرار؟! ودون الإجابة عن هذا التساؤل؛ ستبقى عملية تداخل المفاهيم راسخة في سلوكياتنا.

 

هنا تكمن المعركة الحقيقة لطبقة النخبة –بمفهومها الجديد- والتي يجب عليها أن تعمل على مسارات تراتبية ثلاث:

أولاً: توسيع دائرة هذه الطبقة عبر عملية توعوية مستمرة من خلال النقاشات والحوارات والندوات الثقافية والفكرية، وجميع الأدوات التوعوية اللازمة. فنجاح هذا الجهد يمكن أن يصنع طبقة قوية متماسكة تستطيع التحول من ساحة التوعية والتنظير إلى ساحة الممارسة والتأثير من خلال المسارين التاليين.

 

يبقى الضامن الوحيد للوصول إلى هذه الحالة هو مدى النضج الذي تتمتع به هذه الطبقة –النخبة- وقدرتها على التحول من ساحة التوعية والتنظير إلى ساحة الممارسة والتأثير

ثانياً: التركيز على إنشاء المؤسسات والتكتلات التي تُعنى بعملية المراقبة والمُساءلة العلنية؛ لمؤسسات الحكم، إضافة إلى نشوء مثل هذه الحالة داخل الأحزاب نفسها. أي إن المهمة الرئيسية الثانية لهذه الطبقة هي عملية الإصلاح الداخلي للمجتمع عبر إصلاح مؤسسات الحكم والأحزاب. ويجب التأكيد هنا على أن عملية المأسسة تلك يجب أن تكون وفق منظور أفقي (عمل مؤسسي نقابي تكتلي طبقي) وليس وفق منظور عمودي (حزبي تنظيمي)، إذ إن المهمة المنوطة بهذه الطبقة –النخبة- في هذا المسار هو ممارسة عملية الإصلاح من الداخل لا بناء أطر تنظيمية جديدة للعمل.

 

ثالثاً: هذا التسلسل الطبيعي لا بد أن يصل في نهاية المطاف إلى عملية إصلاح مؤسسي تنعكس ظلالها على المؤسسات الوطنية النضالية الأم (منظمة التحرير، السلطة، الأحزاب)، الأمر الذي يمكِّنها من وضع استراتيجية نضالية توافقية تستطيع من خلالها ممارسة عملية "إدارة الصراع" بقوة وفاعلية ضمن رؤية واضحة تمكنها من الإجابة على سؤال الحل. أي إن هذه العملية الطويلة الشاقة لن تجيب مباشرة على سؤال "الحل" بقدر ما ستؤسس للشروع بعملية "إدارة الصراع" بطريقة منهجية مؤثرة.

  

ولذا فإن إمكانية الإجابة على سؤال الحل؛ في هذا الواقع ودون الدخول في تلك المسارات، هو ضرب من ضروب الخيال واللامنطقية، إذ لا يمكن لمجتمع أن يواجه أعداءه دون أن يتمتع ببنية فكرية وإجرائية أداتية مؤسسية فاعلة، وإن القدرة على الإجابة على سؤال الحل لا يمكن أن تكون واقعية قبل تخطي مرحلة القدرة على ممارسة عملية "الإدارة" بفاعلية وتأثير.

  

ولكن؛ من منطلق الواقعية السياسية فإن هذه المسارات في أحسن حالاتها لن تستطيع تجاوز المرحلة الثانية، ليس لخلل في طبيعة المسارات؛ بل لاصطدامها بشبكة قوية من المصالح يمكنها أن تعيق هذه العملية الإصلاحية برمتها. ولكن يبقى الضامن الوحيد للوصول إلى هذه الحالة هو مدى النضج الذي تتمتع به هذه الطبقة –النخبة- وقدرتها على التحول من ساحة التوعية والتنظير إلى ساحة الممارسة والتأثير..؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.