شعار قسم مدونات

أن تكتب عن المُستعمِر في بيته.. بين فلسطين وأستراليا وموروث الاحتلال

blogs فلسطين

أستخدم هنا كلمة بيته مجازاً لا اعترافاً بحق أو إقراراً بملكية الأرض لغير أصحابها. عندما بدأت تجربة دراسة الدكتوراه في القارة الأسترالية لم يكن حاضراً في ذهني بشكل كبير حقيقة الموقف الذي أعيشه حينها. كان لطبيعة موضوع رسالتي دور في هذه الغفلة على ما أعتقد، ولكن الأمر تغير كثيراً مع مرور الوقت والتعامل مع التفاصيل الدقيقة للحياة في هذه المستعمرة السابقة، وأستخدم هنا مصطلح المستعمرة السابقة لأنه المصطلح الذي يُطلق على الكيانات المستعمرة بعد أن تحولت "لدول" معترف بها رسمياً. لكن الحقيقة والواقع تقول بأن الاستعمار مستمر ومتشعب وبعيد كل البعد عن النهاية.

 

بداية تكشّف الوجه البشع للتاريخ الاستعماري كانت عندما اجتمعت بواحدة من السكان الأصليين في مساق دراسي، وكانت كلما تحدثت عمّا تواجه هي وأهلها تحت النظام الحكومي وسياسات الدولة وجدتني أتوحد معها أكثر فأكثر. كثيراً ما قلت لها عبارات كنت أرددها على نفسي عندما أفكر في وضعنا كفلسطينيين، وكثيراً ما أحسست بالغصة تعود مراراً كلما تشابهت صور القهر والظلم. نحن كباحثين من السياق العربي وضحايا للاستعمار عندما ننتقل لسياق الإمبراطورية الاستعمارية لا يكون حاضراً في ذهننا كثيراً أن هذه الدول والمجتمعات التي نجدها مثالاً للإنسانية والحضارة والتي توفر لكثير منّا فرصاً أكاديمية ومهنية جيدة، يغيب عنّا أنها أسست على عظام وجماجم ملايين البشر ممن كانوا في نفس موقفنا، هم أيضاً كانوا تحت استعمار. نحن نجونا من الاستعمار الظاهر الصريح أما هم فلا. ولعل كثيراً منا يعتقد بأنهم أفضل حالاً الآن بعد التقدم والرخاء الي جلبه عليهم المنقذون البيض، وإلا لكانوا ما زالوا مجتمعات بدائية.

 

التزاماتنا الأخلاقية سواءً في اختيار الأبحاث التي نعمل عليها أو المؤسسات التي نتعاون معها أمور مهنية بحتة لا تؤثر فيما هو خارج البيئة البحثية، ولكن الحقيقة أن ما نشارك به الآن سيُبنى عليه غداً من قبل الأجيال اللاحقة

خلال وجودي هنا رأيت بأم عيني ماذا يفعل هذا المحو المتعمد للبشر، والتجاهل الوقح لموروثهم وتاريخهم، رأيت كيف تحول أقدم مجتمع بشري على وجه الأرض (تعد قبائل السكان الأصليين في أستراليا أقدم تواجد بشري معروف) إلى تكتلات بشرية متفرقة فقدت أكثر من نصف لغاتها الأصلية، وما كانت تنقله عبر الأجيال من معرفة وتاريخ، كيف يهيم شبابها على وجوههم في أغلب الأحيان بسبب الإهمال الحكومي المتعمد بعد أن يُنزعوا من عائلاتهم ويودعوا في بيوت رعاية لا تعرف شيئاً عن حقيقة الصراع الذي يعيشونه. في الأسابيع الأولى من العام الجاري أقدم 5 منهم على الانتحار والسادس في العناية المركزة. ذكرني الخبر بتقرير مشابه قرأته منذ وقت قصير عن ارتفاع معدلات الانتحار لدرجات وبائية في غزة.

 

تجربتي في البيئة الأكاديمية الغربية لم تخلُ من تعرفي على أفراد ومؤسسات يديرها أستراليون من أصول أوروبية يسعون بصورة ما للتخلص من أعباء الماضي والسعي لتعديل الظروف القمعية التي رسخها أجدادهم يستفيدون منها هم الآن، ولكنها وضعتني وجهاً لوجه أيضاً مع نوعين آخرين من الشخصيات أحدها هي شخصية سماها مالكولم إكس "زنجي المنزل"، وهي شخصية ضحية المستعمر التي تعمل لخدمته بكل تفانٍ وتعتبر نفسها منتمية له. هؤلاء وجدت فيهم حماساً منقطعاً لكل ما يصدح به مفكروا ومنظروا الأوساط الغربية حول دول المستعمرات السابقة، دون أدنى مراجعة ولا تدقيق، يدافعون عن أفكارهم ونبوءاتهم كأنها تخصهم هم. ثم هناك شخصية المستعمر الذي يعتقد أنه يدافع عن الضحية بينما يحتفظ بين جنباته بنظرته الدونية لها، نظرته التي تجعله غالباً ما يتقمص دور المنقذ والمعلم الذي يمتلك كل الإجابات، العارف بكل خبايا المشكلات.

 

في بادئ الأمر وكأي قادم جديد ينتابك شعور بأنك لا تمتلك الكثير لتقوله لأنك ربما لست جاهزاً، لست على قدر عالٍ من المعرفة ربما؟ ولكن شيئاً فشيئاً وخصوصاً في مجال الدراسات الإنسانية تظهر مع مرور الوقت الفراغات الكثيرة والكبيرة التي يمكن لباحث من "دول العالم الثالث" ملؤها. ازداد تيقني من هذه الحقيقة كلما شاركت في مؤتمر أو ورشة عمل أو حضرت ندوة عامة. أستمع إلى باحثين يتحدثون عنّا من الخارج بعد ملاحظات عابرة وأبحاث محدودة جداً، ولكنهم لسبب ما يتحدثون بكل ثقة ودون أي تشكيك في مدى صحة ما يفترضون، فلماذا نحن من نمتلك الصوت والتجربة والمعرفة نخاف ونتردد ونبقى قابعين في الزوايا؟ لم يستغرقني الأمر طويلاً حتى قررت أنه ليس من الأخلاقي أن أتخلى عن الصمت والمشاهدة، أن أعيد تعريف دوري وأن أتبنى أسلوباً جديداً في التعامل مع مجالي البحثي وبيئتي البحثية في نفس الوقت.

 

كأكاديميين جدد تأخذنا كثيراً حماسة الجديد والرغبة في الانتماء لوسط أكاديمي له مواصفات خاصة وسمت مميز، كثيرون يفقدون البوصلة وتتحول الأكاديميا إلى عالم يمتص قناعاتهم ومبادئهم وتسحبهم إلى دوامة العمل المدفوع. ومع الوقت لا يعود هناك من تأثير لأي عوامل أخرى سوى ما ننجزه داخل هذا الوسط. نعتقد بأن التزاماتنا الأخلاقية سواءً في اختيار الأبحاث التي نعمل عليها أو المؤسسات التي نتعاون معها أمور مهنية بحتة لا تؤثر فيما هو خارج البيئة البحثية، ولكن الحقيقة أن ما نشارك به الآن سيُبنى عليه غداً من قبل الأجيال اللاحقة. تجاهلنا لواقع أننا نعمل وندرس في مؤسسات تابعة لنظام استعماري سابق يعزز النظام الاجتماعي الذي يهضم حق المتأثرين بهذا النظام. ليس الحل أن نتركه ونقبع في أوطاننا فقط كما قد يقول البعض مستنكراً، ولكن في أن نشارك بكل الصور الممكنة لكي نبقي وجود أصحاب الحق مؤثراً، وفي أن نعترف بأننا وإن كنا نستفيد من هذه المؤسسات فنحن نقر بموقعها وبما تمثله.

 

سأختم بعبارة درج الأكاديميون الملتزمون بحق السكان الأصليين هنا ترديدها كلما بدأت ندوة أو محاضرة، وقد اخترت أن أختم بها رسالتي للدكتوراه لأنني لو لم أفعل للحقني إحساسي بالعار طويلاً. تقول العبارة:

We acknowledge the Traditional Owners of country throughout Australia and recognise their continuing connection to land, waters and culture. We pay our respects to their Elders past, present and emerging

 

"نحن نقر بحق الملاك الأصليين في هذه الأرض عبر القارة الأسترالية، ونعترف بصلتهم الممتدة معها، ومع مياهها، وثقافتها. ندفع باحترامنا لأجدادهم في الماضي والحاضر وفيما هو آت"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.