شعار قسم مدونات

المشهد السوداني وسيناريوهات التصعيد

blogs السودان

فرضت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة التي ارتكبها المجلس العسكري السوداني في الثالث من يونيو حزيران الجاري، بحق المعتصمين السلميين، والذي أودى بحياة أكثر من 118 شهيد حتى وقت كتابة هذه السطور. ودعت هذه الحادثة قوى الحرية والتغيير لإعلان العصيان المدني الشامل الذي بدا أمس الأول الأحد وحتى تسليم السلطة للمدنيين. في المقابل، يواصل المجلس العسكري نشر ادعاءاته البائسة والإساءة للثوار السلميين، واستمرارهم في قتل المدنيين في الطرقات والأحياء لمجرد مطالبتهم بالحكم المدني وبالانتقال الديمقراطي ودولة المؤسسات.

 

وبدايةً، لابد من التسليم بتعقيدات المشهد السوادني، فنظام الرئيس المخلوع البشير ساهم في تدمير البنية الحزبية لمعظم الأحزاب السودانية طوال فترة حكمه، حيث برع نظامه في تقسيم الأحزاب المعارضة واللعب على حبل التناقضات الخارجية، فضلا عن استمراره في الحرب الأهلية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وهي أخطأ تركها البشير، وهي جزءا من القضايا التي تحتاج لمعالجة جذرية وسط التشرذم الحزبي واتساع الفاعلين في مسار الأحداث، سواء داخليًا أو خارجيًا. وهي بلا شك ظاهرة ليست حكرًا على الحالة السودانية، موضع مقالنا، وإنما ظاهرة شهدناها في بلدان الربيع العربي منذ انطلاقته في تونس، مرورًا بمصر وليبيا واليمن وسوريا.

 

لم تأمن الثورة السودانية أيضا من التدخلات الإقليمية، والتي شهدناها كذلك في بلدان الربيع العربي، فالمشهد السوداني الآن يتصدره قوى الثورة المتمثل في السعودية والإمارات ومصر، ودعمهم للمجلس العسكري ضد تسليم السلطة للمدنيين

ولعل من المنصف القول هنا بأن تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين في شأن هذه الدول، أدى في نهاية الأمر إلى إفشال هذه الثورات، ما عدا الحالة التونسية والتي ما تزال تمر بمخاض عسير، وتعاني من تدخلات قوى الثورة المضادة للتغيير والديمقراطية. ونحن بذلك القول، لا ندعو للتشاؤم في مسار الثورة السودانية المستمرة، بل نتفاءل بما رأيناه من عزيمة وإصرار للسودانيين وخاصة الشباب والشابات وتضحياتهم في سبيل تحقيق الانتقال السلمي للسلطة، وبناء نظام ديمقراطي تعددي.

 

فالثورة السودانية الراهنة لا تشبه مثيلاتها في الحالة العربية، لعدة أسباب ليس هدف المقال أبرزها، ولكننا سنخصص مساحات أخرى لاستعراضها. فقد شهد السودان ثورتان شعبيتان في نصف القرن الماضي، وتحديدا في منتصف ستينياته، والتي يُؤرخ لها الباحثين بثورة أكتوبر ضد نظام عبود العسكري، مرورًا بثورة أبريل ضد نظام الجنرال نميري في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وانتهاءً بثورة 19 ديسمبر المستمرة، ولعل أهم ما يميز هذه الثورة، هو بعدها عن الأيديولوجيات وشعاراتها، فقد حصر الثوار مطالبهم في نقاط محددة تعبيرا عن أمال الشعب السوادني وتطلعه نحو الحرية والكرامة والإنسانية ودولة القانون والمؤسسات، ولذلك رأينا مطلب الثوار في الحكومة المدنية، لتحقيق كل ذلك، وتوفير الحقوق بعد حكم نظام الإنقاذ الذي بدا بالشعارات الطوباوية وأنتهى بفشل زريع في جميع الأصعدة. وكذلك رأينا جموع السودانيين بمختلف مشاربهم الفكرية والايديولوجية والجغرافية والعمرية والجندرية يطالبون بذهاب المجلس العسكري وأركانه من الإسلاميين والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى.

  

ولم تأمن الثورة السودانية أيضا من التدخلات الإقليمية، والتي شهدناها كذلك في بلدان الربيع العربي، فالمشهد السوداني الآن يتصدره قوى الثورة المتمثل في السعودية والإمارات ومصر، ودعمهم للمجلس العسكري ضد تسليم السلطة للمدنيين، حيث تسعى هذه الدول لتكرار التجربة المصرية وتنصيب جنرال آخر على رأس السلطة التنفيذية، وحرمان السودانيين من الانتقال السلمي للديمقراطي وحرية التعبير ودولة القانون، وتبذل الدول الثلاث جهودها من أجل المحافظة على مصالحهم المعادية للتغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي الحالة المصرية تم استخدام فزاعة الإخوان المسلين ورفع شعار مكافحة الإرهاب، ولكن لا يصلح هذا السيناريو في الواقع السوادني، لأن الإسلاميين مازالوا يحكمون بصورة أو بأخرى، ويتمتعون بنفوذ عسكري ومالي، بما يمكنهم من قيادة الثورة المضادة بالتحالف مع المجلس العسكري، في مقابل قوى الحرية والتغيير التي ترفع شعار السلمية ضد العسكر وأعوانهم. فالمشهد منذ الإطاحة بالبشير في الحادي عشر من أبريل/نسيان وحتى فض الاعتصام في الثالث من يونيو حزيران. كانت المرحلة الأولى من مخططات هذه القوى، وهي الآن تتحرك في تنفيذ المحور الثاني من خططها لوأد الثورة السودانية.

 

خلاصة القول، فإن نجاح العصيان المدني سيفرض على المجلس العسكري العمل على مسارين. الأول محاولة تفادى الضغوطات الدولية عبر تقديم بعض التنازلات لقوى الحرية والتغيير، وهي تعلم مسبقا بشروط "قحت" في تسليم السلطة للمدنيين ومحاسبة المتورطين في إصدار قرار فض اعتصام القيادة العامة، وبذلك يريد المجلس العسكري إظهار قوى الحرية والتغيير بمظهر الرافض للتفاوض مع المجلس، وبالتالي إيجاد مبرر لإقناع المجتمع الإقليمي والدولي بموقف المجلس العسكري. أما المسار الثاني فسيتمثل في دعم القوى المناوئة للحرية والتغيير وتشكيل حكومة إقصائية مع هذه القوى حتى تنظيم انتخابات شكلية تنتهى بفوز مرشح المجلس العسكري. ونتائج هذا المسار سيتوقف على مدى نجاح العصيان المدني وفترته الزمنية، فضلا عن الضغوطات الخارجية ضد المجلس العسكري ومدى تماسك المجلس إزاء تطورات الأحداث. فحالة الانسداد الراهنة بين الطرفين، كما أسلفنا الإشارة، تعنى بأن الأوضاع مرشحة للتصعيد في الأيام القادمة، ونسأل الله بأن يلطف بأهلنا في السودان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.