شعار قسم مدونات

إلى أورهان باموك.. إسطنبول قوية تبعث على الفخر

blogs أورهان باموك

صورة إسطنبول في عيون أورهان باموك سوداوية متشائمة. لا يُلام أورهان فطفولته (1952) ورثت انهيار الدولة العثمانية وقيام الجمهورية الوليدة في فترة قال عنها أورهان إنه يُستعجل فيها انسدال الظلام بحثاً عن الأمان لـ"أن فقر مدينتنا، الذي يبعث على الخجل، قد حجب عن أعين الغربيين". تغيرت إسطنبول تماماً عن صورة أورهان المظلمة في مذكراته الروائية "إسطنبول.. الذكريات والمدينة"، وهو أول تركي يفوز بنوبل للآداب.

أحياء المدينة ومرافقها في منتصف القرن العشرين ليست هي اليوم، إذ كان أورهان متشائماً لدرجة أن الفقر والفوضى لن يجعل إسطنبول "تحلم مرة أخرى بالوصول إلى قمم الثراء والقوة والثقافة التي وصلتها من قبل". عوامل عدة ربما تسببت بالسوداوية القاتمة، أبرزها عوامل عامة تختص بموقع تركيا الضعيف اقتصادياً ودولياً بعد انهيار السلطنة العثمانية ثم ديكتاتورية الجمهوريين وفشلهم في إدارة المدينة والبلاد، وموجة التغريب الصادمة للناس في ظل ظروف اجتماعية صعبة بائسة وبنى تحتية مترهلة وبطالة وفقر وخراب.

 

يعتقد أورهان أن تحالف البرجوازية التغريبية مع الجيش ودعمه في التدخل بالسياسة كان "بسبب الخوف من اتحاد الطبقات الدنيا مع الأغنياء الجدد الذين يتدفقون من القرى للقضاء على النمط البرجوازي الغربي في الحياة تحت شعار الدين"

وهناك عوامل أخرى تتعلق بشخصية أورهان المتشائمة وطفولته المعقدة في ظل خلافات عائلية وغياب والده الدائم وانهيارات مالية وهو من طبقة برجوازية تنقلت بين مناطق إسطنبولية غنية في نيشانتاشي وجيهان غير ومنزل صيفي في إحدى جزر الأميرات "هيبلي آضا" وآخر في بيرم أوغلو ونزهات بين بيبك وترابيا. وعوامل ثقافية أيضاً، منها تأثره بالجو السائد آنذاك وبأربعة كتاب أتراك اشتهروا بسوداويتهم وهم عبد الحق شناسي حصار ويحي كمال وأحمد حمدي تانبنار ورشاد أكرم كوتشو. وكان أورهان يتعقب أيضاً ما وثقته صور المصور التركي ذي الأصول الأرمنية آرا غيلر المعروف باسم "عين إسطنبول". هذا عدا عن تأثره بالروائي الروسي فيودور دوستويفسكي.

 

لا يكتفي أورهان بوصف المدينة خارجياً بل يدخل إلى صلب التفاعلات الاجتماعية بين أفراد العائلات وشرائح المجتمع خصوصاً أن منطقة سكنه بيوغلو المشهورة بتنوعها التاريخي ما زالت تحتضن حتى اليوم أحفاد أحفاد البيزنطيين أي اليونانيين الذين كانوا يتخاطبون فيما بينهم حتى الأمس القريب باللغة اليونانية. باعتقاد أورهان أن سعي القوميين للتغريب وترسيخ القومية التركية جعل التركيز على احتفالات فتح إسطنبول أكبر خصوصاً أنه في بداية القرن العشرين كانت أغلبية السكان من غير المسلمين بل منحدرين من أصول يونانية بيزنطية. وكان القوميون يعتبرون من يستخدم كلمة "قسطنطينية" له أحلام "تحريرية".

 

يروي أورهان كيف كانت الاحتفالات بفتح إسطنبول تغضب اليونان والحلفاء الغربيين لتركيا في حلف الأطلسي، وكيف أثارت الدولة التركية عام 1955 "حمى الفتح" وذلك "بالسماح للغوغاء بنهب ممتلكات اليونانيين والأقليات الأخرى"، وتدمير كنائس وقتل قساوسة في أحداث شغب مفتعلة دبرها القوميون آنذاك. أحداث الشغب هذه جاءت ردا على هجوم مدبر على المنزل الذي ولد فيه أتاتورك في مدينة سلونيكا اليونانية تبين لاحقاً أنه من تدبير المخابرات التركية، تبعته حملة تحريض إعلامية منظمة أدت إلى تدمير وحرق ممتلكات ومحال اليونانيين والأرمن واليهود وقتل عدد منهم وحوادث اغتصاب على مدى يومين. وهناك أسباب تاريخية خلف هذه الأحداث في 5-6 سبتمبر 1955 تعود إلى علاقات الانتفاع والمصالح بين الباشاوات وتجار وحرفيين ورجال أعمال يونانيين وأرمن ويهود كانوا في مركز مكنهم من إقراض الدولة العثمانية في القرون الأخيرة من عمرها، مما ولد نقمة لدى القوميين الجمهوريين.

 

يسرد أورهان كيف أن علماً تركياً كان معلقاً على سيارة عائلته هو من أنقذها من أعمال التخريب. هكذا تحولت الأعلام ربما إلى إشارة رمزية تدل على هوية أصحاب المنازل والممتلكات، إضافة إلى تعزيزها الشعور القومي. تسببت الأحداث بهجرة كبيرة لليونانيين من إسطنبول إضافة إلى هجرات سابقة. كانت زيارة حي الفاتح أو حي أيوب ومساجدهما بالنسبة لأورهان ابن العائلة الجمهورية أشبه بالانتقال إلى بلد آخر، رغم أن ما يفصله عنهما هو مجرى مائي "خليج القرن الذهبي". كان بحاجة لاكتشاف الإسطنبولي الآخر المتدين الذي كانت تسخر منه بشدة رسوم كاريكاتيرية إضافة إلى أفراد عائلته ذات التوجهات الجمهورية العلمانية.

 

يعتقد أورهان أن تحالف البرجوازية التغريبية مع الجيش ودعمه في التدخل بالسياسة كان "بسبب الخوف من اتحاد الطبقات الدنيا مع الأغنياء الجدد الذين يتدفقون من القرى للقضاء على النمط البرجوازي الغربي في الحياة تحت شعار الدين"، وكان القرويون أكثر اتحادا فيما بينهم من أهل إسطنبول. يعزو أورهان انطوائية أهل إسطنبول إلى شعورهم بالخوف من الغريب والجديد والأجنبي وهو شعور متوارث مع رؤيتهم لكل ثروة الشرق الأوسط تتسرب خارج مدينتهم وبعد التدهور البطيء الذي بدأ مع "هزائم العثمانيين على أيدي روسيا والغرب" مما جعل المدينة تقع في الفقر والسوداوية والخراب.

 

ترافق ذلك، وفق شهادة أورهان، مع حملة تتريك إضافية و"تطهير ثقافي" وفرض عقوبات على الأقليات مما أدى إلى اختفاء اللغات الأخرى إذ في منتصف القرن التاسع عشر كانت تُسمع التركية واليونانية والأرمنية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية، أما في منتصف القرن العشرين فقد اختفت المدينة الكوزموبوليتانية. يرى أورهان أن الجمهورية التركية في تأسيسها كانت "واثقة من هدفها إلا أنها لم تكن واثقة من هويتها واعتقد مؤسسوها أن الطريق الوحيد للانطلاق هو إنشاء مفهوم جديد للتركية مما يعني نطاقاً معيناً يفصلها عن بقية العالم". وهذا ما تسبب بحالة الانفصام بين الانتماء للشرق وموجات التغريب.

 

إسطنبول في هذا الكتاب لم تكن في عيون أورهان فحسب، بل نقلها أيضاً في عيون المستشرقين مثل الرسام الألماني أنطوان ملينغ والشاعر الفرنسي جيرار دو نيرفال والكاتب الفرنسي تيوفيل غوتيه والروائي الفرنسي غوستاف فلوبير حيث انتقد تصويرهم الاستشراقي مستشهداً بأدبيات ونظريات إدوارد سعيد. لكن الكاتب والبحار الفرنسي بيير لوتيه كان مختلفاً عن غيره بقربه من أهل إسطنبول وإعجابه بشرقيتهم ومقاومتهم للتغريب. لعل هذا ما يبرر أن أهل المدينة أطلقوا اسمه على تل سياحي في منطقة أيوب يشرف على خليج القرن الذهبي حيث كان هذا المكان المفضل للوتيه خلال زيارته إلى المدينة.

 

إذا كانت الأنهار رئة المدن فإن البوسفور هو رئة إسطنبول، يقول أورهان "إن القدرة على رؤية البوسفور بالنسبة لأهل إسطنبول ولو من بعيد، مسألة ذات أهمية روحانية، وربما يفسر هذا أن النوافذ المطلة على البحر تشبه المحراب في المسجد والمذبح في الكنيسة والهيكل في الكنس". ووفق أورهان، فـ"لا يوجد أثر يسيطر على أفق إسطنبول بمفرده، إنها لا تدين بعظمتها للسليمانية وحده ولكنها تدين بها أيضاً لآيا صوفيا وبيازيد وياووز السلطان سليم". تغيرت إسطنبول كثيراً وتغير وجهها عما وصفه أورهان، وعاد لها بريقها مدينة كوزموبوليتانية ثرية قوية تبعث على الفخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.