شعار قسم مدونات

هل تمنحنا المعرفة حياة أكثر سعادة؟

blogs قراءة

 ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

– المتنبي

في التاريخ الإنساني الطويل لطالما كانت المعرفة أمر منشود، يُطلب أحياناً لذاته كما لدى الفلاسفة ويطلب لتحقيق العائد النفعي للإنسان كما لدى العلماء، ولطالما كان السعي نحو المعرفة أمر محمود لدى مختلف الثقافات تذلل في سبيله المصاعب وتبذل في سبيله الأموال، حتى قيل أن طالب العلم في الإسلام إذا توفي في سبيل ذلك يعتبر شهيداً، ولطالما كانت نظرة الإنسان نحو المعرفة أنها أمر إيجابي من شأنه أن يجعل حياة الإنسان أفضل وأسهل وأكثر سعادة، ولكن هل الأمر دائما كذلك؟ كلنا يعرف الأية الكريمة التي تقول: "أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" وقيل في تفسير الآية في تفسير ابن كثير: هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا (عن أشياء) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها.

فأحيانا خير لنا أن لا نعرف، تخيل مثلاً أنك تعرف تاريخ موتك! إنك لن تستطيع أن تعيش يوماً واحداً وجحيم هذه الفكرة في رأسك، كان يمكن لله سبحانه وتعالى بطريقة أو بأخرى أن يلقن كل إنسان كم من السنين سوف يعيش في هذه الحياة، لكن في ظل معرفة كهذه تصبح الحياة غير ممكنة، لذلك بقيت مجهولة، تخيل أنك تعرف أن مرضاً ما سوف يصيبك، فهنالك الكثير من الأمراض تبدأ تغيراتها على مستوى الخلايا والأنسجة بسنين طويلة قبل أن تظهر أعراضها السريرية، ولا أتحدث هنا عن الأمراض التي يمكن أن نتفاداها إذا اكتشفناها مبكراً ولكن أقصد تلك الأمراض المزمنة التي لا شفاء منها.


شغفنا الطفولي البريء هو الذي يدفعنا للظن أن معرفة كل شيء على أتم وجه هو الأمر المثالي الذي يجب أن يكون عليه الأمر، لكن الحياة أعقد مما كنا نظن وليست الأمور بها مباشرة ولا حتمية

فمريض الـAlzheimer مثلاً تبدأ الـAmyloid proteins بالتراكم في دماغه قبل سنوات طويلة من ظهور المرض، وقد يعيش ذلك الشخص حياة كاملة عادية وربما سعيدة دون أن يعرف أن مرضاً مزمناً يتربص به في آخر العمر، وفي ذكر أثر معرفة الإصابة بالمرض أذكر أحد المرضى الذي خضع لتنظير علوي للجهاز الهظمي لما يعاني منه من شعور بعسر الهضم وعدم ارتياح في منطقة البطن لمدة سنوات، ظهر بالتنظير وجود قرحة معوية صغيرة وتم أخذ عيّنة منها لتحديد ماهيتها، بعدها كان يفترض أن يعود المريض إلى بيته على أن يراجع العيادة لاحقاً، غير أن المنطقة التي تم أخذ العينة منها نزفت أكثر من الحد المسموح قليلاً فكان الرأي أن يدخل الى المستشفى يوم أو اثنين للمراقبة، في اليوم التالي كان المريض بحالة جيدة سريرياً ومخبرياً، لكن قبل خروجه بساعات ظهرت نتيجة العينة وإذ بها تتكشف عن ورم سرطاني خبيث، قمت بإخبار المريض بكل ما أوتيت من قدرة على تمرير الأخبار السيئة والتقليل من هول الصدمة، في اليوم التالي صباحاً توفي المريض لتوقف مفاجئ في القلب!

في أحد الأيام قابلت شخصاً طلب مني رقم هاتف فأعطيته إياه، فطلب مني أن أكتبه على هاتفه المحمول وأقوم بالإتصال لأنه أميّ لا يعرف القراءة والكتابة، الغريب بالأمر أن في مجمل ما شعرت تجاهه بالشفقة كان هنالك شعور بالغبطة على راحة البال التي هو بها، إنه في منأى عن كل الأفكار والكتب والجدليات التي تعتمل في رأسي ولا تزال تصوراته عن هذه الحياة لا تختلف كثيراً عن تصورات الطفولة، قد لا يكون كذلك وقد يكون على مستوى فكري أعلى مني، لكن المحزن ما تكشّف لي من همّ المعرفة الكبير الذي أحمله في داخلي.

ثم هل يمكننا حقاً أن نعرف؟ ليس الجواب سهلاً فهنالك فرع كامل في الفلسفة هو نظرية المعرفة (الإبستومولوجيا) للإجابة على هذا السؤال، وإذا تمت هذه المعرفة فهل هي كاملة؟ فبدأً من سقراط الذي قال: "لا أعلم أي شيء سوى شيء واحد هو أنني لا أعلم أي شيء" وليس انتهاءً بماكس بلانك مؤسس فيزياء الكم التي تركت الاحتمالات مفتوحة وقطة شرودينجر الشهيرة التي تكون ميتة وعلى قيد الحياة في الوقت نفسه ما أثار حفيظة أينشتاين الذي قال جملته الشهيرة: "الله لا يلعب بالنرد" مروراً بكل هذا يبدو أن علينا أن نراجع كل ما نظن أننا نعرفه.

إن شغفنا الطفولي البريء هو الذي يدفعنا للظن أن معرفة كل شيء على أتم وجه هو الأمر المثالي الذي يجب أن يكون عليه الأمر، لكن الحياة أعقد مما كنا نظن وليست الأمور بها مباشرة ولا حتمية، أحيانا علينا أن نتحايل على أنفسنا حتى نتمكن من تحمل مشاق هذه الحياة، لذلك على الإنسان أن يُبقي على جانب لا بأس به من الأسئلة المفتوحة والغموض في حياته، علينا أن نُبقي على مساحة الأمان هذه التي تحيمنا ربما من الكثير من القلق والتفكير والترقب والتحسّب، علينا أن نُبقي بعض الأمور ضبابية غائمة كأننا نقف من هذه الحياة على الحياد، إنها طريقة مصطنعة لتخدير الوعي، فلا نفرح كثيراً ولا نحزن كثيراً مهما حدث، في سعي الإنسان لحياة أفضل تتم الدعوة دائماً لكبح بعض نزعاتنا وغرائزنا ومن بين ذلك حبنا اللامتناهي للمعرفة وشغفنا الدائم للسؤال، ليست هذه دعوة لنبذ المعرفة بالتأكيد، لكن هي أن نهوّن الأمر على عقولنا قليلاً ونبقي لها مساحة صغيرة للراحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.