شعار قسم مدونات

"بنات حواء الثلاث" حكاية ثلاث صديقات.. مؤمنة وثائرة ومشوشة!

BLOGS بنات حواء

أصدرت قبل عامين، الروائية التركية الشهيرة "أليف شافاق" روايتها الماتعة "بنات حواء الثلاث"، وقام بترجمتها الكاتب "محمد درويش" إلى العربية عن النسخة الإنجليزية سنة 2017 كعادته في ترجمة أعمال الكاتبة، والتي لاقت رواجا كبيرا وصيتا منقطع النظير، لعل أبرزها رواية "قواعد العشق الأربعون"، حيث لا تجد قارئا مبتدئا كان أو نهما، إلا ولديه نسخة منها، يحتفظ بها كعربون محبة لبطلها، مولانا جلال الدين الرومي، وإذ تعتبر رواية "بنات حواء الثلاث" من آخر ما صدر للروائية، فهي لا تقل روعة ولا جمالا عن سابقاتها من الروايات، رواية فلسفية دينية تجمع بين أقوال الفلاسفة وآراء المفكرين الكبار، رواية تعالج قضية الإيمان من وجهة نظر فكرية، وتسبر أغوار النفس البشرية وكيفية تعاطيها مع مسألة التدين في علاقتها الشديدة بالمجتمع.

تدور أحداث الرواية بين أوكسفورد وإسطنبول، كما هي طريقة شافاق البارعة في السرد، عالمين مختلفين، متباعدين زمانيا ومكانيا، تتأرجح بنا هنا وهناك، تشد أذهاننا بقوة إلى تفاصيل مجرياتها، إلى حكاية انطلقت من تركيا بإسطنبول، بيري الفتاة المدللة من أب علماني متحرر وأم محافظة، يتخاصمان دوما ويتراشقان في دوامة نقاشات ساخنة، جعلت من بيري شخصية مهزوزة مهلهلة، لا هي مؤمنة شرسة تدافع بقوة عن إيمانها ولا هي متحررة لها موقف واضح من التدين، شخصية خلقت لها مشاكل أثناء حياتها ووضعتها في فوهات مدافع الشك مرات ومرات، أخوها أوميد، الأقرب من حيث الأفكار إلى أبيه، الشيوعي الذي خطط لانقلاب على السلطة إلى جانب رفاقه، حيث ضبطت السلطات بحوزته مسدسا خزنه عند أخته الصغرى، تسبب في سجنه لمدة طويلة مليئة بالتعذيب والاضطهاد، سَجن معها مشاعرَ أسرته الصغيرة ووضعها في أزمة نفسية حادة، وأخوها الصغير هاكان، المنحاز إلى أمه فكريا، ليتشكل معسكران متناقضان من داخل البيت تقف بيري بينهما موقف المتفرج الحيران، تحاول إخماد حرائق الجدال الذي يجد دوما طريقا للظهور بسبب حدث عابر متعلق بالدين، فتقلدت دور الإطفائية التي لا هم لها إلا الحفاظ على موازين القوى من داخل البيت الصغير.

التيه والتشويش الذي كانت تعيشه بيري لا يقدر على إيقافه إلا الدكتور آزور، هكذا كانت تعتقد، فبعد الانطلاق في سلسلة الدروس، كانت تباشر بيري سؤال أستاذها أسئلة ظلت تحيرها مذ كانت طفلة صغيرة

التحقت بيري المتميزة في دراستها، بعد أن تجاوزت مرحلة الثانوية، بجامعة أوكسفورد الإنجليزية، فرافقها أبوها منصور الذي كان دوما يشجعها ويساندها، إلى جانب أمها سلمى التي كانت أشد الخوف على ابنتها لأنها ستفارقهم للمرة الأولى في حياتهم وتعيش في عالم منفصل عن عالمهم، عالم مليء بالتحديات والصعاب، ففي عام 2001 انطلقت بيري في مغامرتها الدراسية الجديدة، حيث التقت زميلتين سيصيران بعد ذلك من أقرب صديقاتها إلى قلبها، شيرين الآثمة أو الثائرة حسب وجهتي نظر مختلفة، الإيرانية التي تحمل حزمة من الانتقادات للمتدينين، تعبر عن آرائها بجرأة دون أدنى تردد، وتُرجِع أسباب التطاحنات التي يعيشها العالم والفوضى التي يتخبط فيها إلى تعصب المسلمين بالدرجة الأولى.

المسلمون الذي يظنون أنهم الوحيدون من يملكون مفاتيح الحقيقة، يبغون بذلك فرض نمط من العيش، نمط موحد من التفكير والتدين، وكل هذه الأفكار شكلت لها مواجهات مع الآخرين، بالخصوص مع الصديقة الثانية لبيري، منى المصرية المؤمنة، أو المتعصبة إذا ما غيرنا أماكن رؤيتنا للأمور، ترى أن الإسلام محاصَر من الغرب، الغرب الذي يسعى دوما لتشويه سمعة هذا الدين، لغرض الحد من تطوره وانتشاره، ويشدد الخناق على المتدينين من المسلمين، إناثهم على التحديد، ضاربين عرض الحائط كل قيم الحرية والتسامح، بين الضفتين تقف بيري (أو ماوس كما تحب شيرين مناداتها) كدأبها في أي جدال فكري، لا تستقر على رأي، كشجرة اجتُثت من تحت الأرض ما لها من قرار، فما كان منها إلا البحث عن الخلاص في عامها الثاني حيث يكون الطلبة ملزمين بموضوع بحث يتابعونه مع أحد أساتذة الجامعة، فلجأت بيري إلى الأستاذ المثير للجدل "آزور" المسؤول عن البحث في موضوع الرب، كانت بيري تود بصدق أن تجد الجواب الشافي لقلقها المتزايد وحيرتها المتشكلة في عمق تكوينها الديني والاجتماعي، وقد صارحت أستاذها بالأسباب التي جعلتها تختار هذا الموضوع دون غيره من الموضوعات الأخرى المختلفة، فأجابها آزور بكلام زاد من إعجابها وتأثرها بأستاذها: "إن منهاجنا الدراسي لا علاقة له بالإيمان لأننا ننشُد المعرفة، فليس هناك إيمان مطلق ولا إلحاد مطلق، أريد فقط أن أعطي الملحد حقنة من الإيمان، وأزود المؤمن بجرعة من الشك!".

إن التيه والتشويش الذي كانت تعيشه بيري لا يقدر على إيقافه إلا الدكتور آزور، هكذا كانت تعتقد، فبعد الانطلاق في سلسلة الدروس، كانت تباشر بيري سؤال أستاذها أسئلة ظلت تحيرها مذ كانت طفلة صغيرة، وفي المقابل كان الدكتور آزور يثق في ذكائها وسرعة بديهتها، فهو يريد من طلبته امتلاك ملكة التفكير والنقد، امتلاك الجرأة على الشك، سيرا على خطى المسيح عليه السلام: "انشدوا الحقيقة والحقيقة تخلِصكم"، كان يسعى الأستاذ الجامعي أن يُعلم طلبته أنه لا توجد حقيقة مطلقة، بل هي حقائق مختلفة ومتباينة، كل من زاوية نظره، وكان يُصرح بهذا الكم من الأفكار في كتبه التي تُطبع في أوكسفورد وخارجها، ولأن العقول تختلف، فإن كثيرا من الناس والطلبة على الخصوص استاؤوا من أفكاره المتعجرفة، على حد تعبيرهم، والتي تمثل وجها من وجوه الاستعلاء والغطرسة، يقابلها آزور بالتجاهل واللامبالاة، هكذا كانت طريقة عيشه، وتلك كانت منهجية تدريسه.

لم يخطر لبيري على البال أن آزور سيكون وراء عيش الصديقات الثلاث تحت سقف واحد، فهو شجع شيرين على مرافقة منى وبيري، حتى تستطيع التعايش مع الأفكار والاعتقادات المختلفة، يريد آزور أن يجعل نقطة التقاء بينهن، في بقعة مشتركة من الأفكار، بعد أن تقدم كلٌّ منهن التنازلات المطلوبة لتوحيد الرؤى، أو لتقريب وجهات النظر في أقل تقدير، فهو، أي آزور، لم يكن يسعى لأدلجة طلبته بأفكاره الراسخة، لأنه يشبه بيري إلى حد ما، لا يدافع عن الإلحاد ولا يناصر الإيمان، غير أنه واضح الموقف، يعرف خطواته ويحسبها جيدا، عكس بيري التي كانت تائهة تتقاذفها أمواج الإيديولوجيات بعنف، آزور هو بيري واثقة من نفسها، وبيري هي آزور متشكك لا يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي، ولم يكن لقاء البنات الثلاث ليسفر عن نتيجة إيجابية، بل كانت كل واحدة منهن تقف على أرضيتها لا تزول ولا تنثني، منى في إيمانها واقتناعها الثابتين بمظلومية الإسلام، وشيرين في وجهة نظرها الشرسة والصارمة في انتكاسة العالم الأخلاقية بسبب المسلمين، وبيري في حيرتها الممزوجة بكل صنوف التجارب والأفكار.

مرت سنوات خلت على تجربة أوكسفورد، ولم يتغير في بيري إلا لامبالاتها التي صارت شعارا لحياتها، تزوجت بعد ذلك وأنجبت طفلين، تعيش مع زوجها في مودة وألفة، وبقيت طول هذه المدة على اتصال بصديقتيها المقربتين، كل واحدة منهما تحتفظ بأفكارها لنفسها، وما يدهش في هاتين الصديقتين أنهما نسختين طبق الأصل لوالديها، منى تماما كوالدتها سلمى الملتزمة بحروف الشرع لا تحيد عنها قيد حرف، وشيرين تشبه منصور وتكاد تطابقه في ازدرائه لكل أشكال التدين الطافحة بسمات التعصب والغطرسة، الصديقتان ما هما إلا امتداد لأبويها، تطابق مذهل، لا أرى الكاتبة إلا أنها تريد، من خلال ذلك، أن تُظهر أنواع الناس الذين نصادفهم في كل مكان، في البيت وفي الجامعة، البيت كمجتمع صغير متماسك، والجامعة كبيئة واسعة تصخب بالأفكار والأطروحات، وتريد شافاق أيضا أن تبين السبب الرئيس لموجة الشك التي تطبع شبابا كُثر، ويتجلى بالخصوص في الانفصام التام بين عقلية الوالدين، كل واحد منهما يحاول أن يحوز ابنه إلى كنفه ويعلمه الفكر السليم!، فالبيت الذي لا يتأسس على قاعدة موحدة، سيُنتج لا محالة حيارى يتيهون في دروب الشك والتخبط، وإننا بهذا التحليل البسيط لا نسعى لترويج ضرورة المطابقة بين الزوجين في الأفكار تطابقا تاما، بقدر ما نرمي إلى تبيان أن التناقض سيؤدي لا محالة إلى تناقض مثله أو يفوقه في الدرجة، هي نتيجة حتمية لا نستطيع تحوير مسارها أو تغيير نتائجها.

إن رواية شافاق التي بين أيدينا تعج بالأفكار والمعلومات الثقافية والتاريخية، ففي سياق سردها الروائي تبحر بنا في عالم الفلسفة مع اسبينوزا وكانط، ثم تغوص عميقا في روايات الأدب العالمي، مع أورويل في روايته السياسية "1984" و"مزرعة الحيوان"، وبرفقة لورنس في روايته المثيرة للجدل "عشيق الليدي تشاترلي"، فتعطينا شافاق كعادتها مما زخر به الأدب العالمي والإنتاج الفلسفي والفكري الخالص، تُنعش أنوفنا بروائح التصوف الغربي والإسلامي، وتنير عقولنا بقبسات من شتى العلوم، هي بحق مكتبة متكاملة تجمع كل صنوف الأدب والفكر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.