شعار قسم مدونات

اللمسة من أجل حياة زوجية أفضل!

blogs الحب

لمسات جمالية تشرق بها أروقة القلوب، وتغذي أوعية المودة الموصولة مع المحبوب.. لمسات توقظ الشغف إذا غفا، وتشفع للحبيب كلما جفا.. لغة قلب ملهوف، بكف عطوف، وحضن دافئ رؤوف.. تتسلل في زحمة العبرات، في سكون اللحظات لتعافي نفسية الأزواج آناء الضعف والأزمات، فتختزل جملة من المشاعر الكامنة في الخلجات، وقد تكون أحيانا أبلغ في التعبير من كل اللغات. إن اللمسات لها مفعول السحر في إثراء الحب، وإرساء الألفة والسكينة بين الزوجين، فهي ركن أساسي من أركان الزواج الناجح مع شريك الحياة لتقوية وشائج الاستقرار الزوجي القائم على القيم بنسبة تفوق وتتفوق عن الغرائز.

ومن المغالطات المنكرة اعتقاد أن الإشباع في عش الزوجية ينحصر في إثنين الفرج والبطن. فكم من زوجة مبدعة من الطراز الرفيع بمجال الطبخ تجهد نفسها في تحضير ما لذ وطاب تكهنا منها أن الطعام طريق الفوز بقلب الزوج الحبيب، بينما الأخير دائم التأفف لا يعجبه بلح الشام ولا لبن العصفور؛ فتعده الزوجة جاحدا غير ممتن لجهودها. في حين هو يشتهي منها أمورا أخرى لم تأبه لأهميتها، أو زهدت من دون قصد في منحها له، والتي تتلخص إجمالا في قربها الأنثوي الشفوق، ولمساتها الناعمة الحنون.

اللمس يشعر الإنسان أنه حي من مستهل رحلته جنينا في رحم أمه إلى حين قدومه ضيفا على هذه الأرض. إنه اللغة الأولى والأخيرة التي تحكي الحقيقة دائما

وكم من زوج يبخل عاطفيا عن شريكته معتقدا أنه بتحمله مشاق الحياة، ومكابدته المتاعب لتحقيق غضارة العيش لأسرته، وتوفير احتياجات زوجه من ترف الدنيا قد أدى كل ما عليه ولن تحتاج بعد ذلك لشيء، فيقتر في تدليلها بلمساته العاطفية وهي أحوج ما تكون لعاطفته ودعمه النفسي. إنه من المجحف عدم تفعيل اللمسات العاطفية خلال تفاصيل اليوم، واغفالها خطأ جسيم يقترفه الزوجان في حق بعضهما، ذلك أن التلامس الجسدي هو احتياج للطرفين يملأ رصيدهما العاطفي ويحفظ أدمة التآلف والود بينهما. وإلا جف خزان الحب ودخلا في تنافر وتناحر يضعضع علاقتهما، ويئيضها باردة رتيبة.

لا غرو أن إهمال هذا الجانب في الحياة الزوجية، وتضييق نطاق الحميمية داخل حدود العلاقة الخاصة يحسس الشريك بالرفض وعدم التقدير من نصفه الآخر مهما توفر له من مقومات مادية أخرى. ومع مضي الوقت يتضرر كلا الزوجين من الحرمان، ويتمزق بينهما الإمتنان والعرفان على أرضية وعرة وقاحلة من المشاعر. حتى إذا وهت وشيجة المحبة، وأسبل الاغتراب سدوله استفاقا على شفا جرف هار ينهار بهما في نوازع النفس والشيطان. فيطفقان في بحثهما بعيدا عن طرق تفعم الشغور، وتلأم بقايا حب مكسور. ربما يزلّ الزوج المحروم، ويستسلم لغواية امرأة غير امرأته، أو يفكر في تعدد يعوضه السنوات العجاف. وربما تنزلق الزوجة أيضا وتجرفها عواطفها في نفس المنزلق خاصة مع إنفتاح إعلامي المحرك للسفليات من الغرائز.

إن ندرة التواصل الجسدي يمكن أن يكون سببا من أسباب المشاحنات إن لم يكن المحرك الخفي وراء كل الأسباب. وقد تطرقت في مقام غير هذا لواقع الحياة الزوجية عندما يغلفها الجفاف العاطفي، كما تناولت حال حميمية العلاقات الأسرية في واقعنا. وقبل أن أغوص في أثير وتأثير اللمسات لا بأس من جرد بعض البحوث العلمية التي تغذت تجاربها على هذا النوع من التواصل الغير اللفظي، الذي لم يكن العلم الحديث يدر عن فضله إلا بعد واقعة حدثت إبّان الحرب العالمية الثانية لفتت حفيظة طبيب مكلف بقسم صغار فقدوا ذويهم في المعركة، حيث لاحظ أن نسبة وفيات الأطفال بأحد العنابر أقل مقارنة بمثيلاتها من العنابر الأخرى، فاستقصى وعاين بالفعل تجاوبهم مع العلاج أكثر من غيرهم، مع أنهم يتناولون نفس التغذية ويحظون بنفس العناية الصحية، إلا أن عجوزا حركتها عاطفة الأمومة اتجاه أولائك الأطفال المتعافين فكانت تتفقدهم يوميا، تحضنهم وتمسح على رؤوسهم، دون أن تعلم بأن لمساتها تلك ستكون علاجا نفسيا مساعدا أنقذهم من الهلاك.

ثم تلتها تجارب عدة سارت على نسقها؛ من بينها تجربة أجريت على مجموعتين من القردة: الأولى حظيت برعاية مباشرة من الأمهات فنشأت سعيدة، اجتماعية، قوية جسديا. والثانية تم زويدها بحليب معبأ بقارورات، فحرمت من أي إتصال عاطفي وإحتكاك جسدي مع أمهاتها مما جعلها كئيبة، منزوية وعدوانية جدا. إن الجلد الذي لا يلمس يموت، حقيقة علمية أصابتني بالدهشة حين قرأتها ذات يوم أثناء تصفحي لكتاب اللمس للدكتورة فوزية الدريع، وألهمتني لقول الله تعالى في سورة طه معاقبا السامري تنكيلا له على فتنته بني إسرائيل "قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ " آية تلوتها مرارا بيد أني لم أفقه حكمتها بمثل هذا العمق قبل تلك اللحظة.

undefined

إعراض قاسي، وإقصاء أي إقصاء حين ينبذ إنسان ولا يُقرب ممن حوله، فلا يلمس أحدا ولا يلمسه أحد، إنه حقا حكم بموت بطيء من نوع آخر. كل ما هو منّي يكمن في جسدي: فعندما تلمس جسدي فإنك تلمسني، وعندما تعرض عن جسمي فإنك تبعد عني من الناحية العاطفية جاري تشابمان. اللمس يشعر الإنسان أنه حي من مستهل رحلته جنينا في رحم أمه إلى حين قدومه ضيفا على هذه الأرض. إنه اللغة الأولى والأخيرة التي تحكي الحقيقة دائما كما تقول مارغرت أتوود، الحاجة إليه ضرورة إنسانية لنمو الكائن البشري مذ نعومة أظفاره لضمان صحته العاطفية والإجتماعية وحتى الجسدية. وهذا ما برهنته البحوث وذهبت إليه؛ إذ فسرت دراسة كيف يعمل التلامس على إحياء بعض خلايا مخ الرضع، وبينت كيف يهدئ نفسياتهم التحام جلودهم الغضة بجلود أمهاتهم، مستنتجة أن لمسة الأم لها بالغ الوقع على إدراك الطفل ونموه السليم.

لا غرو في كون اللمس الإيجابي غذاء للروح والجلد معا، فالجلد ليس كما يحسبه سواد الناس ولعلي كنت من بينهم أنه لا يعدو أن يكون غلافا خارجيا يكسو الجسم ليجمّله ويحميه من عوامل خارجية، في حين أنه حسب العلوم الطبية الحديثة عضو يزن قرابة الخمس كيلوجرامات، يحوي على طول مساحته المقدرة بمترين مربع ملايين الخلايا العصبية الحساسة التي تتفاعل وتتأثر بما يلامسها ويحيط بها، فهو إذن عضو حساس بامتياز له ذاكرة حسية يرى، يفكر ويحتاج أن يلمس كي يحيى ويحيي بحياته العلاقات الإنسانية. يجزم جاري تشابمان أن الإتصال البدني يمكن أن يقيم علاقة أو يهدمها، ويمكن أن يوصل للآخر الحب أو الكره باعتباره أحد النواقل الفعالة للأحاسيس التي يطلبها كل شخص حتى يشعر أنه محبوب ومرغوب. اتخذه جاري لغة أساسية من اللغاة الخمس للإعراب عن الحب العميق لشريك الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.