شعار قسم مدونات

ومات جاري الذي لا أعرفه!

blogs - رحيل رجل أبيض وأسود

أعيش في مكان جميل أجمل ما فيه هم من حولي، في المقام الأول عائلتي، وضمن هؤلاء الذين هم من حولي جيراني، الذين أصادفهم بين الحين والآخر فنرفع أيدينا بالسلام ثم نكمل كل في طريقه، قبالة بيتي يسكن هو وزوجته وطفلين، رجل مفعم بالحيوية والنشاط، ويبدو أنه يحب الأخشاب كثيرا، فقد امتلأت حديقة بيته بالكثير منها ما جعلنا نعتقد أنه يهمّ ببناء بيت خشبي في حديقة بيته، ألمحه أحيانا وفي معظم الأحيان لا، أصادف زوجته وكل منا في سيارته فنومئ برأسنا بالتحية مع ابتسامة خفيفة، فجأة علمنا أنه مات بسكتة قلبية مفاجِئة من أحد المعارف.

 

مات جاري! الذي لا يكبرني بكثير، مات بجلطة قلبية، ترك خلفه زوجة وابنتين، وجيران أمثالي ينظرون إلى بيته في الخروج والدخول ومن النافذة يستفهمون، وأخشاب حديقة بيته الكثيرة جاء من يأخذها على الفور بعد وفاته، فقد قررت أسرته الرحيل (والعودة لبلادهم) وترك البيت بعد هذا الحدث القاسي، يا ترى ماذا أخذت معك يا جاري؟

  

أن يموت جارك فجأة يعني أن تهدي لروحه السلام في الصباح والمساء وأنت الذي لم تسلّم عليه في حياته إلا مرات معدودة

خلف ماذا نلهث في هذه الدنيا؟ لطالما سألني من يعرفني جيدا لماذا أحب أن أتأمل فترة الصباح، لا أحب أن أدخل جو الحياة بسرعة، بل أحب أن أعطي نفسي مجدها بالتأمل قدر استطاعتي، فالدقائق القليلة هذه قد تجعل يومي مريح وهادئ بشكل أكبر من لو أني خضت غمار الحياة دونها، لحظات بسيطة للتأمل يعني لحظات كبيرة في فهم النفس أولا وتقديرها وتقدير كل ما حولك أكثر، ورؤية الحياة من الزاوية الأجمل، ما يجعلك تنظر للأمور بمنظار التفاؤل أكثر.

 

مات جاري! وإلى الآن كلما رأيت بيته من نافذة بيتي أشعر وكأن الحياة توقفت لبرهة وأشعر بغصة في قلبي. أفكر ماذا كان يفعل قبل موته بقليل، ماذا حدث لحظة موته، ما هي ردة فعل زوجته وأولاده الذين لم يكونوا مهيئين لخبر صاعق كهذا، مات جاري وأذكر أني لم أكلمه سوى مرة كان فيها قد نسي ضوء سيارته مفتوح فدققت الباب لأخبره بذلك كي لا تنفذ بطارية السيارة، يبدو أن بطاريته هو التي نفذت قبلها وضوء حياته هو الذي أطفئ للأبد.

 

أن تترك خلفك كل شيء فجأة يعني أن تترك كتبك وأوراقك على مكتبك ومواعيدك في تقويم جوالك، وكوب قهوتك الذي ما زال به القليل على الطاولة قرب أريكتك، وأن طفلك الذي يبكي قد نام منتظرا رؤيتك حين يستيقظ، وابنتك التي هي في المدرسة تنتظر رؤيتك بعد عودتها، ومفاتيح بيتك وسيارتك ونظارتك في مكانها تنتظرك أن تأخذها مسرعا كعادتك قبل الرحيل. أن تتصل بصديقك فلا يرد فيعاود الاتصال بك وأنت في صدد مغادرة جسدك!

 

أن تذكرتك التي حجزتها لزيارة أمك وأبيك سيأخذها أحد غيرك فوجهة رحلتك قد تغيرت في ليلة وضحاها، مقعدك في عيادة دكتور الأسنان بات فارغا منتظرين قدومك في الموعد كعادتك في دقة مواعيدك، أن ملابسك الجديدة ستبقى جديدة والقديمة ما زالت رائحتك فيها، وأحذيتك وعطورك وفرشاة أسنانك وكل تفاصيل حياتك التي كانت تشكل جزء من يومك ستصبح يتيمة بعدك ولا أحد يدري ما هو مصيرها

 

أن يموت جارك فجأة يعني أن يذكرك في كل مرة ترى فيها بيته بذاك الحزن الذي نغلفه في قلوبنا منتظرين فتحه شئنا أم أبينا مع أحد الغاليين على قلوبنا يوما ما، أن يموت جارك فجأة يعني أن الحياة مهما كانت في نظرك كبيرة فهي لا تتعدى دقائق معدودة في حضرة الموت والفراق، أن يموت جارك فجأة يعني أن تهدي لروحه السلام في الصباح والمساء وأنت الذي لم تسلّم عليه في حياته إلا مرات معدودة. أن يموت جارك فجأة يعني أن تفرح أن ما زال أمامك الكثير من الفرص على الأقل أكثر من تلك التي كانت أمامه. أن يموت جارك فجأة يعني أن تشعر بهيبة موته أكثر من هيبة حضوره عندما كان حيّ

 

هل يا ترى لو اختارنا ملك الموت سنكون راضيين بما نحن عليه الآن، أم أن ما نحياه لا يمت بصلة لما نريده حقا لا من قريب ولا من بعيد؟

أن يموت جارك فجأة يعني أن ملك الموت كان يبعد بضعة أمتار عن بيتك حين أتى لأخذ روحه، يعني أنني قد أكون التالي أو أنت.. ليس مهم بل المهم أن ننجز ما نريد حقا إنجازه قبل الرحيل، فهذا الأخير لن يسلم منه أحد أيا كان وأين ما كان، وصدق عمر بن الخطاب حين نقش على خاتمه تلك المقولة التي خلّدها التاريخ (كفى بالموت واعظا يا عمر).

 

كفى بالموت رادعا لكل ما فينا من مساوئ وسلبيات، كفى بالموت نهاية لكل لحظاتنا وتفاصيل حياتنا الجميلة التي لا نلقي لها بالا، لكل ضحكة نقية مصدرها القلب، لكل كلمة جميلة مصدرها الصفاء، لكل ورقة شجر سقطت على الأرض فتلونت بألوان الفصول ولونت لوحات حياتنا دون الالتفات لها، لكل تفاصيل حياتنا التي اعتدنا عليها فتحولت من الجمال والروعة إلى عادة مملة لا نلحظها من الأساس، هو نهاية لكل لقاء جمعنا بمن نحب ونحن على شاشاتنا الصغيرة، ولكل شجار أعطيناه أكبر من حجمه خاصة مع أولئك الذين هم أحبابنا، كفى بالموت منبها لذواتنا وحواسّنا ومهيّجا للمشاعر اتجاه أحبابنا.

 

أن يموت جارك فجأة يعني أن تتعظ قبل فوات الأوان، أن توقن بلا أدنى شك أن فنجان قهوة مع من تحب أغلى من عقد بملايين لا بل بمليارات الدولارات، يعني أن الحياة لن تتوقف عندك إذا ما أنت غادرت، تماما كما لم تتوقف عنده! عجلة الحياة ستمضي وسيعتاد من فارقناه على الفراق، وسيصبح مكانك الفارغ مألوفا بعد أن كان استهجان، لن ينتظروك كثيرا بل سيمضي كل منهم في طريقه، وإن كان فيهم الخير فلن ينسوك من الدعاء وإهدائك العمل الصالح وأنت في قبرك.

 

لكن الأهم من كل هذا يتلخص بسؤال، هل يا ترى لو اختارنا ملك الموت سنكون راضيين بما نحن عليه الآن، أم أن ما نحياه لا يمت بصلة لما نريده حقا لا من قريب ولا من بعيد؟ وعندما نجيب بصدق مع ذواتنا عن هذا السؤال نكون قد وجدنا خطة حياتنا التي لطالما بحثنا عنها دون جدوى، لكن في حضرة الموت ستجد ضالتك وتتمنى أن تعود لتحققها، فلنتخيلها ونحققها قبل أن تصبح واقع لا رجعة فيه. وفي الختام فلنهدي لأمواتنا السلام.. وأنت يا جاري الذي فتحت في قلوبنا نافذة لألف سؤال فلترقد بسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.