شعار قسم مدونات

في وداع أرطغرل.. أرطغرل منهج حياة وليس مجرد مسلسل

blogs - قيامة أرطغرل

نشرت تدوينة عن مسلسل قيامة أرطغرل قبل عامين على مدونات الجزيرة، كان عنوانها رسائل من مسلسل قيامة أرطغرل، حيث لاحظت كما لاحظ غيري أن هذا المسلسل تجاوز الدراما والتاريخ ليكون منبرا إعلاميا يبث رسائل توعوية تصحح مفاهيم خاطئة أو غائبة عن المشاهدين المسلمين من الأتراك والعرب وغيرهم، ربما فاقت فائدتها مئات الخطب والدروس. ما دفعني حقيقة لكتابة هذه المدونة هو تأثير هذا المسلسل الكبير على حياتي ونحن الآن على وشك توديعه بعد خمس سنوات من العيش فيه وبأحداثه التي تشبه أحداث عصرنا في تكالب الأمم على الأمة الإسلامية، إلا أنّه وِجِدَ في عصرهم من يتحركون بحماسة لقضايا الأمة مع كل التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية التي يواجهونها، ونحن لا زلنا نغط في سبات ومن يتحرك منا يُعدون على أصابع اليد وفوق ذلك حركتهم بطيئة غير واضحة المعالم والوجهة.

ومع ذلك كنت مترددا في كتابة هذه المدونة ونشرها لسببين؛ الأول أنّي لم أجد كلمات أستطيع التعبير عنها عمّا أشعر به تجاه هذا المسلسل وما تلقيته منه، والثاني أنّي خفت أن يتم اتهامي بالمبالغة وأن أرطغرل مجرد مسلسل مثل غيره من المسلسلات يهدف لإمتاع المشاهدين وجني الأرباح المادية من هذه المتعة، بقي هذا التردد عندي حتى رأيت صورة لكاتب سيناريو مسلسل قيامة أرطغرل الشاب محمد بوزداغ نشرها على صفحته الرسمية في الفيسبوك وعلق عليها بالتركية قائلا: "أكتب سيناريو آخر حلقة من مسلسل قيامة ارطغرل مودعا هذا العمل، أرجو من الله أن يتقبل نوايانا".

الإرادة القوية والمضي قدما لتحقيق الأهداف السامية يجب أن تكون منهج حياة لكل مسلم يسعى للنهوض بأمته في مجاله والمتاح له، هذه الإرادة يجب أن تكون محاطة بالإخلاص والصبر

كان هذا الدعاء لله تعالى بقبول هذا العمل هو المفتاح الذي فتح صندوق العبارات في مخيلتي لتتدفق خارجه كتدفق الشلال بعد أن كانت راكدة داخله هائمة على وجهها. أيقنت وقتها أن شعوري تجاه هذا المسلسل صائب وأن ما قلته سابقا وأقوله من جديد"أن هذا المسلسل ليس عمل درامي أو تاريخي بل هو ثورة ومنهج حياة" صحيح. كان تركيزي أثناء مشاهدة هذا المسلسل عاليا أتابع عبارات البطل وأعوانه وعبارات أعدائهم بحذر محاولا جمع ما أستطيع من حكم ورسائل وطرق تفكير، كان شوقي للمسلسل كبيرا بحيث صار يومي الأسبوعي المفضل والذي أشعر أنه نهاية الأسبوع هو يوم عرض المسلسل والذي كان يُعرض كل أربعاء، ولم يكن اليوم المفضل هو الخميس كما جرت العادة في المجتمعات العربية. والآن لننتقل لبعض النقاط التي أعتبرها منهج حياة لجميع المسلمين تم عرضها في المسلسل.

أولا: من أعظم الأمور التي ركز عليها المسلسل وتكرر الحديث عنها في أكثر الحلقات هي النظام الإلهي وضرورة تأسيسه والحفاظ عليه، نظام يستمد شرائعه وقوانينه من ذات الإله المقدسة، هذا النظام الذي تم تسمية الطريق إلى تأسيسه بالدعوة أو القضية، هذه الدعوة الإلهية التي نعيش بها ونموت لها ونتحمل كل الصعاب لتحقيقها ونتحمل فقد الأبناء والأصحاب لأجلها فكل شيء رخيص دونها حتى أنفس القادة، كما قال ارطغرل هذه الدعوة دعوة الله ستكملوها حتى لو مت، وجملته هذه هي تفسير عملي للآية الكريمة: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ"، هذه الدعوة التي بدأها النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم عندما ترك مكة وترك أهله وتحمل العذاب تمهيدا لطريقها وفقد أحب الناس إليه بسببها، هذه الطريق التي توصل لله تعالى في الآخرة والتي تجعلك تعيش في حالة من التأله في الدنيا، هذه الدعوة والنظام الإلهي هي النور الذي يضيء في ظلام النظام العالمي البشري الذي يجثم على الأمة المحمدية بل وعلى جميع الأمم منذ قرن من الزمان، ظلام يتيه فيه كل شخص إلّا من كان معه قبس من نور هذه الدعوة الإلهية.

ثانيا: الإرادة القوية والمضي قدما لتحقيق الأهداف السامية يجب أن تكون منهج حياة لكل مسلم يسعى للنهوض بأمته في مجاله والمتاح له، هذه الإرادة يجب أن تكون محاطة بالإخلاص والصبر والآناة، فارطغرل مات ولم يدرك أن البذرة التي بذرها صارت شجرة عظيمة بعد قرنين من وفاته!

ثالثا: المُخَذِّلون وما أدراك ما المُخَذِّلين!.. هم أفراد وجماعات متكررة على مر التاريخ يشتركون في صفة الكسل والدعة، بعضهم ساذج وبعضهم خبيث حاسد يعلم أن نهاية أمرك مشرفة لكنه لا يستطيع أن يجاريك فيحاول تثبيطك حتى لا تتفوق عليه، هؤلاء هم أعداء أصحاب الدعوات، فتجدهم يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمجنون مرة وبالساحر مرة أخرى، وعادتهم إلصاق صفة الجنون بكل مصلح وبكل من عنده أمل في التغيير للأفضل، وقد سمعنا عبارات كثيرة مثل هذه في المسلسل أبرزها "أرطغرل يجري وراء خياله"، وهؤلاء لا حل معهم سوى عدم العبئ فيهم والمضي قدما.

رابعا: من أكثر الكلمات التي تكررت في المسلسل هي النسل فالزواج والتناسل يجب ألّا يكون همك منهما قضاء شهوة فقط أو لأن الناس يتزوجون سأتزوج، ولا يكن همك من الإنجاب لأن الناس ينجبون سأنجب، أو أريد أطفال يملأون وقت فراغي! بل ليكن همك أن يخرج من نسلك من يخدم دينه وأمته وأن يمتد نسلك سنوات عديدة وقرون طويلة رافعا هذا الهدف، ليكن همك أن يكون نسلك مشرفا متميزا عن باقي البشر، ليكن همك أن يخرج من نسلك رجال بمعنى الكلمة لا يخافون إلا الله تعالى، العالم مليء بقطعان من البشر تعيش كالبهائم، اسعَ أن تكون متميزا وأن يكون نسلك متميزا و جديرا بخلافة الله في الأرض.

خامسا: الحب الصوفي للنبي صلى الله عليه وسلم والإرتعاش عند ذكر اسمه ووضع اليد على الصدر هو الحب الحقيقي لجنابه الشريف، وإنّي على قناعة أنّ التصوف الحقيقي القائم على الحب المطلق لله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم البعيد عن الدجل والخرافة هو الدعوة الحقيقية لمواجهة تيار الإلحاد واللادينية، فمهما بلغ الإنسان من مراتب العقل يبقى عقله قاصرا ولن يستطيع الإحاطة بجميع الأسئلة الوجودية فضلا عن الإجابة عليها، إلّا أن القلب والروح يجيبان.

سادسا: أظهر المسلسل بالإضافة للإعتزاز بالإسلام والعمل له إعتزازا وفخرا بالقومية التركية وبالإرث التركي إلّا أنه لم يقدم الأتراك على أنهم شعب الله المختار الخالي من العيوب، فقد أظهر أنهم مثل باقي الشعوب فيهم من الخونة وضعاف النفوس وعبيد المال العدد الكبير وهم معول هدم يستخدمه الأعداء لهدم الأمة الإسلامية عامة وليس الأمة التركية فقط، فقد أظهرهم كخونة للدعوة الإسلامية جمعاء وليس كخونة للدولة وللأتراك وحسب.

استطراد: سمعت مرة عبارة في الجزء الرابع قالها أرطغرل وهو مكبل متحديا عدوه حيث قال: "نحن أحفاد من أذاب جبال الحديد" وقعت هذه العبارة في نفسي موقعا عظيما، مع أنها تشير لقصة تركية أسطورية، إلّا أن القوة والتحدي والإرادة في إلقاءها كان له أكبر الأثر على نفسي التي حادثتني فقالت لي أنت كتركماني تعتز بالإنتساب لهؤلاء الأجداد ولكنك لا تحذو حذوهم ولا تملك إرادة كإرادتهم في أمور أبسط من أمورهم، مشيرةً في حديثها هذا إلى وزني الزائد الذي لم أملك إرادة قوية لتخفيضه حتى ذلك الوقت، شعرت بالعار بعد هذا الحديث النفسي وأخذت قرار بإذابة جبال الدهون من جسدي محاكيا إذابة الأجداد لجبال الحديد وقد أذبت عشرين كيلو غرام منها منذ ذلك الوقت، صدق أولا تصدق كانت هذه العبارة في المسلسل هي السبب!

أخيرا نقول وداعا أرطغرل أيها الرجل العظيم الذي لم ولن يغطي مسلسل عظمتك وفضلك، وداعا أيها الفارس التركماني المسلم الذي كافأه الله فجعل سلطان الإسلام بيد ذريته لستة قرون تعادل نصف عمر أمة الإسلام، ولولا أنّ لك سرا مع ربك ما ذاع صيتك في الآفاق وإلى اللقاء القريب مع أمثالك في حياتنا المعاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.