شعار قسم مدونات

صراع الأمة مع ذاتها.. ما الذي تفعله السعودية بالمسلمين؟

blogs - محمد بن سلمان

قد تفسر نظرية صراع الحضارات لصاحبها صامويل هنتنغتون الكثير من الأحداث والحروب التي عبرت تاريخنا المعاصر على أساس صدامات حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بأبعادها التاريخية وتفاعلاتها المستقبلية. لكن النظرية لا تفسر ولا حتى تفترض إمكانية أن تتصادم الحضارة مع ذاتها، أو أن تنقسم على نفسها، ولا تتطرق إلى إمكانية نشوء خط الصدع -الذي وصفه هنتنتغون بأنه الممهد للصراعات بين الأمم- في الأمة ذاتها، وبين أفرادها الذين يتشاركون نفس العقيدة والتاريخ والثقافة واللغة.

لا أجد ما هو أكثر دلالة من عبارة "صدام الأمة مع ذاتها" لتوصيف حال الأمة الإسلامية راهناً. ذلك أن الأمة لم تشهد ذلك المستوى من التشظي والانقسام والتسييس والعبث بثوابت العقيدة وتشويه مبادئها وتزييف تاريخها والإساءة لصورتها وجوهرها والتفريق بين أتباعها منذ بزوغ فجر الإسلام في أرض الحجاز وحتى يومنا هذا. لا يستقيم ربط راهن حال الأمة الموصوف سالفاً بمحطات الخلافات التاريخية التي شهدها المسلمون على طول تاريخهم سواء المذهبية منها (سنة وشيعة) أو السياسية الظرفية المترافقة بنشوء دول وأفول أخرى، فهي على أهميتها لا تخرج عن السياق الطبيعي لحركة التاريخ وتشكل الأمة شأنها في ذلك شأن جل الحضارات الإنسانية. لكن الخطير فيما نشهده اليوم هو المنهجية في تحفيز التصادم والتعمد في تأجيج الصراع ورسم خط الصدع بين المسلمين أنفسهم من بلاد مهد الإسلام، وبأيادي من يفترض أنهم حماة العقيدة وحراس وحدة الأمة وتماسكها.

إعادة صياغة الهوية الدينية.. إسفين ابن سلمان بين إسلامين
بدت فتاوى علماء المملكة في عهد ابن سلمان مفصلة على قياس مصالحه ورغباته، متناقضة مع ما كانت عليه بالأمس القريب قبل صعود الأمير سلم السلطة في بلاده. فأصبح الحرام حلالاً والمحظور من قبل مباحاً

كان لصعود ابن سلمان سلم السلطة في بلاده أثر بالغ في حدوث تصدع في الهوية الدينية التقليدية للمملكة، وانقسام حاد -وإن بدا مكتوماً- بين أتباعها. فالرجل الذي لم يخف نيته العودة ببلاده إلى ما أسماه "الإسلام الوسطي" الذي كانت عليه المملكة قبل عام ١٩٧٩، ولا رغبته بنبذ التشدد الذي ساد بعده، بدا كمن يدق إسفينه بين حاضر المملكة وماضيها القريب، وتالياً بين هوية دينية رعاها أجداده بكل أعرافها وشخوصها وأخرى يريد أن يرسخها بما تيسر له من مؤيدين ولو اضطره الأمر إلى سحق مخالفيه كما عبر عن ذلك ابن سلمان نفسه.

بدا لاحقاً أن ولي العهد غير عابئٍ بعواقب عبثه بالهوية الدينية للمملكة، ولا بمآلات آلاف من مَن ترعرعوا وتعلموا في حضن الإسلام الصحوي الذي يريد تدميره والذي كان يعم بلاده بالأمس القريب، والأهم من ذلك كله أن الأمير لم يعر اهتماماً لخطورة الشرخ الذي أحدثه ضمن المؤسسة الدينية المؤثرة وما نتج عنه من تصادم بين علمائها وانقسام أتباعها من طلاب وعوام في السعودية وخارجها بين كثرة مرحبة خوفاً وطمعاً بنهج ابن سلمان ورؤيته، وقلة شاجبة ومستنكرة لها غيبتها السجون والمعتقلات. ولأن للمملكة رمزيتها الدينية، ولأنها قبلة المسلمين وأرض الحرمين، لم يكن الشرخ الذي أحدثه ابن سلمان ليقف عند حدودها، بل تجاوزها لدول كالإمارات ومصر بدت وكأنها تستنسخ رؤية الرجل وتحذوا حذوه في العبث بالهوية الدينية لغايات لا تختلف في جوهرها عن تلك التي أرادها ابن سلمان.

التصدع الدموي وتصاعد الكراهية للمملكة

كان في خوض المملكة حروباً بالأصالة والوكالة وتورطها المباشر وغير المباشر في إزهاق أرواح الآلاف من المسلمين مع بعض حلفائها، الأثر البالغ في احتدام التصدع في جسد الأمة وتصاعد الحقد واحتداد الكراهية لدى الكثيرين اتجاه الدولة السعودية وحكامها بل وحتى علمائها. فالمملكة التي كانت غالباً ما تنأى بنفسها عن الصراعات العسكرية لأسباب شرعية، أصبحت بين عشية وضحاها في القلب منها، حاملة وزر دماء آلاف المسلمين وأرواحهم ومدعومة بثلة من علماء السلطان الذين سقطوا من عيون من كانوا يعتبرونهم ورثة الأنبياء وأسقطوا معهم حرمة الأنفس واستباحة الدماء في اليمن ومصر وليبيا أو صمتوا عليها في مشهد كانت فيه الفتاوى تنهال مؤجرة القاتل ومؤثمة المقتول ولسان حال المسلمين يقول: الآمر والقاتل والمقتول والمفتي كلهم مسلمون.. أي علماء هؤلاء.. وأية أمة تلك!

تقارب مع الأعداء وتحشيد لاستعداء الأخوة

كان في تقارب المملكة المطرد مع عدو الأمس إسرائيل "اليهودية"، وعدائها مع قطر وتركيا "المسلمتين" الأثر الكبير في استفحال التصدع في جسد الأمة وتصاعد الإستقطاب بين أبنائها. وبكثير من الذهول الممزوج بالغضب، تابع ملايين المسلمين علماء السلطان في أرض الحرمين وخارجها وهم يمهدون السبيل الشرعي أمام ابن سلمان ومن على نهجه للتقارب مع الدولة العبرية مسقطين الدعاء على إسرائيل الذي طالما جلجلت به خطبهم، ومستنكفين عن الدعاء لفلسطين وأهلها الذي طالما صدحت به حناجرهم. ومما زاد ذلك المشهد مأساوية، تأييد ذات العلماء لحصار قطر الخليجية المسلمة في شهر رمضان، وشيطنة تركيا المسلمة أيضاً لغايات سياسية في غياب أو تغييب تام لمبادئ التآخي والتواد والتراحم بين المسلمين، والتي من المفترض أن يكون علماء الديار المقدسة أكثر الناس دراية بها وأحرصهم على تطبيقها.

الحلال ما يحله الحاكم والحرام ما يحرمه

بدت فتاوى علماء المملكة في عهد ابن سلمان مفصلة على قياس مصالحه ورغباته، متناقضة مع ما كانت عليه بالأمس القريب قبل صعود الأمير سلم السلطة في بلاده. فأصبح الحرام حلالاً والمحظور من قبل مباحاً في مشهد بدا فيه أن ميزان الإفتاء في المملكة يرتكز على توجهات الحاكم أكثر من ارتكازه على ضوابط الشرع وأصول الدين. وكنتيجة طبيعية لذلك، فقد سقط علماء المملكة الكبار سقوطاً مدوياً وانهارت تلك الهالة التي كانت تجلل نظرة المسلمين من أتباع وعوام لهم. وتصدى لهم علماء آخرون وقفوا على النقيض منهم يحاجونهم بالشرع ويستنكرون عليهم قصور فتاويهم وشدة ميلهم للحاكم والتصاقهم به. كان هذا وجهاً آخر من أوجه الإنقسام الحاد والتصدع في المؤسسة الدينية الذي تجاوز حدود المملكة وبدأ يعتمل في جسد الأمة.

تعبر الأمة الإسلامية منعطفاً خطيراً، يسود فيه التصدع بين دولها ويعم فيه الإنقسام بين أبنائها، ويغربل فيه الناس بين طائع أعمى لولي الأمر أو خارج آثم عليه. لكن الأسوء من ذلك كله هو اتخاذ الدين مطية لتحقيق مآرب سياسية ومصالح ضيقة وإن كانت على حساب تماسك الأمة ووحدتها، أو على حساب الإساءة إلى الأسلام وتفريغه من مفهومه الجامع ومقاصده الواسعة وحصره بطاعة ولي الأمر وصغائر الأمور. تصارع الأمة ذاتها، أو هكذا يبدو. وتضيع في صراعها مقدسات ما كان لها أن تضيع لو ترك الإسلام على فطرته المتماسكة الصلبة، وتغيب قضايا مصيرية ما كان لها أن تغيب لو اجتمع علماء الأمة على كلمة سواء وموقف عادل. وأما المسلمون فلسان حالهم يقول: أين أمة الإسلام من القدس؟، وأين هي من دماء المصريين واليمنيين والليبيين؟، أين أمتنا من إبادة الروهينجا والإيغور؟ من المستفيد من كل ذلك؟ ومن الخاسر بعد كل ذلك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.