شعار قسم مدونات

ابن النفيس.. الموسوعة المتحركة

blogs ابن النفيس

يزخر تاريخنا العظيم بوفرة وافرة من الأعلام المبرزين الذين أضاءت بأسمائهم سماء أمتنا المُخرجَة للناس، كما حفلت هذه السماء  – ولا تزال – بما يضيق المجال عن استقصائه بَلْهَ الإحاطةُ به من النجوم اللامعة الممثلة بتلك الكوكبة الدرية المباركة من العلماء الأفذاذ والأدباء المرموقين، الذين أثروا مكتبة الدنيا الإنسانيةَ بوجودهم فيها وبكونهم جزءا منها، وأثروا مكتبتها العلمية والأدبية والفكرية بما سطرته أياديهم البيضاء المباركة من تراث قيم، وبما جادت به قرائحهم المتوقدة التي قلّما تجود بمثلها أو قريب منها قريحة أمة من الأمم أو ذاكرة من ذواكر البشرية.

 

ولا غَرْو، فهي أمة الوحي الإلهي المبارك الذي أكرمها به رب العباد سبحانه وتعالى، وهي أمة الرسول النبي الأمي الذي ما انفرجت شفتاه الطاهرتان عن كلمة إلا وهي وحي يوحى إليه من لدن حكيم خبير، فهو عليه الصلاة والسلام المَعين الأول الذي نهلت منه الأمة وعلّتْ من علوم هذا الوحي، ثم هي الأمة التي تتابع فيها الخلف بعد السلف، والطلاب بعد العلماء، والتلاميذ بعد الشيوخ، إلى يومنا الحاضر، على وراثة هذا الإرث العظيم مشافهة بالألسن واستيداعا في بطون الأسفار، كما نطق بذلك الصادق المصدوق (يحمل هذا العلم من خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)

 

ومن العلماء العاملين الذين كتب الله لهم القَبول في الأرض، والجمعَ بين علوم حياة الناس وعلوم حياة القلوب، هو حكيم زمانه، ورائد الاكتشافات العلمية في وقت قلّتْ فيه الأدوات، وشحّتْ فيه المصادر والمراجع لعلمٍ هو من مبتدأ أمره إلى الآن قائم على التجربة والدراسة، ذلكم هو الطبيب الأوحد، ابن سينا الثاني، علاء الدين ابن النفيس الدمشقي ثم المصري الشافعي، المولود بدمشق سنة ٦١٠ والمتوفى بالقاهرة سنة ٦٨٧ رحمه الله تعالى.

   

  

لم يكن رحمه الله وعاء حافظا للعلم فحسب، يتأكّل به الدنيا أو يجدُّ في طلبه لينال شهرة أو رياسة او حظوة عند أسياد الناس في زمانه، بل كان وعاء حافظا للعلم ناقلا له، مبلغا به، حريصا على تعليمه لطلابه ليكون لهم بمثابة السلم الي ترتقي به أرواحهم إلى الله، ليرتقوا من بعدُ بأمتهم في ذُرى المجد، ويأخذوا بأيدي الناس إلى سبيل التفقه بأمر دينهم ودنياهم لئلا يرضوا من غنيمة العلم بالإياب.

 

فعلى سبيل الاستدلال، تذكر كتب التراجم أنه كان رحمه الله لا يحجب نفسه عن الناس ليلا ولا نهارا، على ضيق وقته وامتلاء برنامجه بالأشغال العلمية بين التدريس والتأليف والإفتاء، نعم بالإفتاء ! فقد كان رحمه الله فقيها على مذهب الإمام الشافعي، يدرّسه لطلاب العلم في المدرسة المسرورية بالقاهرة، ويفتى الناس به، علاوة على تأليفه لبعض الشروح فيه كشرحه على مهذب الإمام الشيرازي الذي عاجلته المنية دون إتمامه.

 

الشاهد من الكلام، أنه كان يمنح نفسه ووقته للناس، ليأخذوا حظهم ويحظوا بكامل فرصتهم في الاستزادة من العلم والتعمق فيه، إيمانا منه رحمه الله بأن المسلم – أيَّ مسلم – لا يعلم موضع الكلمة التي قد تنجيه عند ربه في الآخرة ولا وقتها، وبأن أولئك الطلاب المثابرين الذين كان يدفعهم شغفهم بالمعرفة إلى المجيء إليه، قد يكون من بينهم من يوفقه الله إلى نفع الأمة بأكثر مما ينفعها هو به، وبهذا المنطق أكبّ سائر طلاب العلم على دروسه العامة في المساجد، كما أكبّ أكابر الأطباء وخواص طلاب العلم – النجباءَ والمتقدمين فيه – على الدروس الخاصة التي كان رحمه الله يعقدها في بيته بحضور الأمراء وأصحاب المناصب.

 

وبارك الله له في وقته وجهده، فها هم الأطباء في مصر، لا يكاد يتخلف منهم أحد – من المشتغلين بالطب والباحثين فيه – عن قائمة الذين تشرفوا بأخذ الاجازة عليه والتخرج في مدرسته الفكرية الكبيرة، ثم نجده بعد ذلك يصف نفسه في إجازاته المكتوبة لهم بقوله: (المتطبِّب) كما نراه مصورا بشكل واضح في موسوعة الأعلام للزِّرِكْلي.

  

وبعد، فإن الذي خلق ابن النفيس في زمانه قادر على أن يُوجد في هذا العصر وما بعده مِن الأطباء وغيرهم مَن يفتح عليه في معرفة العلم بالكمّ الذي يريده سبحانه، فإنني لم أنوِ من هذه الكلمات اليسيرة الإتيانَ على كل ما حفظه التاريخ لنا من ترجمته وأعماله، فإنكم لاحظتم أن المقال لم يتطرق بذكرٍ إلى آثاره التي تركها ولا إلى اكتشافه للدورة الدموية المنحول لويليام هارفي، ولم أنوِ بها كذلك قطع الأمل علي المعاصرين من أبناء الأمة، وإنما أردت تعريف الزملاء من الأطباء بالدرجة الأولى ثم عموم الناس بهذه القامات الفكرية الكبيرة التي قصرنا في دراستها وفي تقديمها للناس قدواتٍ حسنةً يُحتذى بها، ولبيان حقيقة أن دراسة سير أمثال هؤلاء العلماء الصالحين أمر تستأنس به الهمم ويُعالج به الكسل، وهو في اوقاتٍ مخصوصةٍ أفضلُ من كثير من العلم نفسه كما قال الإمام أبو حنيفة النعمان يوما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.