شعار قسم مدونات

البساطة فنّ لا يتقنه الكثيرون

blogs رجل في حديقة، تأمل، تفكير

كثيرون منّا يركضون وراء الحياة بشكل معقّد ويصنعون حولهم أقفاصاً تحول بينهم وبين مجتمعهم وأسرهم وأصدقائهم، بل حتّى في دينهم وشريعتهم، فأصبحت مفاهيم الحياة لديهم مشوشة مفتقرة للجمال والروح، ولعلّ أحد أسباب ذلك التّكلف وغياب البساطة وواقعية الحال، فلقد أصبح التنافس على الظهور بأحسن المظاهر شرطاً عرفياً واجباً ممزوجاً بنكهة (البرسيتيج والإتيكيت) فعلى سبيل المثال؛ ترى صاحب وليمة فرح أو حزن مثلاً يستدين ويتكلف فوق طاقته حتى يبدو بمظهر الكريم حتى لو كان كارهاً لفعله، ولعلّ سبب ذلك هو حكم العادة وليس العبادة. حدثني أحدهم أنه قد وصل الأمر به بأنه بقي أربعة سنين كاملة! وهو يقوم بسداد وليمة عرسه مغتراً بقصة حاتم الطائي المعروفة؛ عندما قام بذبح فرس والده الذي كان مصدر رزقهم الوحيد فقط لإكرام ضيوفه.. لم يكن يعلم حينها بأن ما فعله الطائي كان أقرب لمرض الشهرة ليس إلّا، وأنّ المال بنظره كان فقط لاكتساب الثناء والذكر الحميد، بل حتى قيل أنّ زوجة حاتم قد تزوجته لكرمه وطلقته لنفس السبب! 

فوصل الحال إلى قتل أحلامنا وآمالنا بالعادات والتقاليد المكلّفة والمعقّدة منها، التي قد تمرر وتمارس تحت غطاء الدين والدين منها براء، فكم من فتاة لم تسطع الزواج من شاب بسبب انتصار العادات والعرف، وكم من شاب لم يستطع كذلك لذات السبب، وكم من صديق امتنع عن قبول ضيافة صديقه بسبب همّ تسديد الدين، دين هذه الضيافة التي أصبح شرط حضورها مقابلتها بالمثل إن لم يكنْ بما يفوقها، وكم وكم… حتى وصل الأمر بأن من يحاول معالجتها أو تغييرها أو البراءة منها يواجه الكثير من الصعوبات والعقبات، فقد يصل في معظم الأحيان لحد القطيعة والهجر بل وحتى والتبرئة منه! رحمّ الله شيخ المفسرين الطبري كان إذا أهديَ إليه هدية مما يمكنه المكافأة عليها قبلها وكافأ صاحبها وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليها ردّها واعتذر إلى صاحبها! وقد وجّه إليه ذات مرة أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلمّا نظر إليها عجب من الأمر ثمّ قال: "لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه ومن أين لي ما أُكافئُ عن هذا؟!".

تجرد من الصنعة والزيف وتألق كما خلقك ربك "خير دينكم أيسره وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"، عش حياة البساطة، اركب سيارة الأجرة

لماذا نفتقتر إلى تطبيق البساطة واليسر في حياتنا؛ ألم يقل ربنا "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"، هذا الأمر في العبادة، فما بالك في العادة!، لم نتكلف بما لا قدرة لنا بحكم سيف العرف والتقليد، حتى في مناط التكليف لم يكلفنا الشرع بمقدرة يصاحبها شيئ من التعب! بلّ بما فيه مقدرة بوسع "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"، فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا شيئٌ آخر "فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ"، وألمّ يقلها نبينا الكريم ثلاثاً لهؤلاء المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ"، لأنّ الأصل في الإسلام أنّ كل العبادات سهلة ميسرة وزيادة على ذلك فقد خفف الله على عباده؛ فالزكاة لا تصح إلا لمن كان عنده مال وبلغ النصاب وحال عليه الحول والصيام يسّر الله تعالى للمريض والمسافر وغير القادر عدة من أيام أُخر، وللمريض الذي لا يُرجى شفاؤه يعفى من القضاء وعليه الكفّارة، والحجّ لمن استطاع إليه سبيلا… حتى في الفكّر فليست الشطارة دائماً بالتعقيد والتنقيب، ولكن بالإيمان الصحيح والفهم البسيط العميق، فذاك الشافعي -رحمه الله- يسأل: ما الدليل على وحدانية الله؟ فيقول: ورقة التوت، تأكلها الدود فتخرجها حريرا، ويأكلها الغزال فيخرجها مسكا، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلا، وتأكلها الشاة فتخرجها لبنا، ويأكلها الحمار فيخرجها بعرا. فمن الذي نوع الأشياء والأصل واحد؟

فلا تبسطها كل البسط ولا تجعلها خلف عنقك؛ فلا المقصود بأن تتخل عن الرفاهية، أو أن لا تنعم وتتجمل بما أحله الله عليك أو أنّ لا تتنافس عن المركز الأول ولا أنّ تعيش تحت خط الفقر، لا ولكن أجعل الدين حاكماً لا تابعاً، كن يسيراً بسيطاً منافياً للتكلف وبعيد عن اللامبالاة المطلقة، كن فرداً من أفراد المجتمع مهما بلغت درجتك في الحياة. كن ماهراً في ذلك الفن الدينيّ المحمود (البساطة)، فما خير النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا بأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فكان دائماً سهلاً يحب السهل، كن كما قال الدكتور سلمان العوده -فك الله أسره- عندما عرفّ البساطة بأنها أن تكون ذو روحانية عالية وراحة البال.

سأل النبي ذات مرة أعرابياً عما يدعو به فقال: لا احسن دندنتك ولا دندنة معاذ ولكني أسال الله الجنة وأعوذ به من النار فقال عليه السلام وهو يبتسم، ونحن حولهما ندندن!. تجرد من الصنعة والزيف وتألق كما خلقك ربك "خير دينكم أيسره وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"، عش حياة البساطة، اركب سيارة الأجرة، اصنع ذكريات جميلة مع أصدقائك وأقاربك، تعرف على أهل الحيّ والمسجد، واصنع الطعام والشراب بنفسك، صم يوماً، تصدق ولو بالقليل، احمل حاجاتك بيدك، كن كما كان -عليه السلام -" يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويحمل اللبن مع أصحابه، ويكون في مهنة أهله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.