شعار قسم مدونات

لا غيّب الله نجمتي

blogs أم

للحظات تلتف الأبجدية على نفسها، تمتنع القوافي أن تجود بحرف ويرخي القلم أجفانه على معزوفة ليلٍ طويل من التفكر والتأمل في سرٍ بديع، أُجاذب النصوص أطراف الكلِم، أستميلُ الكلمات بالثناء، ولكنها تأبى أن تنصاع، لربما ضاقت بها سعة الصفحات.. تتشابك بقية إرادتي مع يراع أضاع مِداده، أحاول أن أُهش بعصاه تعابير عصية لكنه يزداد إطراقاً في عصيانه، لكأنما تأمرت الصحف والأقلام وأعلنوا صمتا مديدا، أليس الصمت في حرم الجمال جمال؟ وأضيف لمقولة الشاعر نزار الصمت في حرم الجمال كلام لا تسعه صفحات أو مدونات.

كيف لقلم أن يخط ثناءً لمن قلّمه، فهذّبه ثم أحسن إليه فأعطاه من روحه مداداً، ومن قلبه كتاباً؟ كيف لأوراقٍ أن تسع صفاتِ من رتبها وصنعها وأنفذ فيها سحره فجعلها تسر الناظر إليها؟.. لا يمكن لمداد الروح أن يُرسم، أو لخفق القلب أن ينطِق أو لنبض الحب أن يُسمع.. أو لكلمات تصف (أمي) أن تُكتب.. هكذا استسلمت الأبجدية في وصف هذا السر البديع والحب الكبير لـ(أمي). لن ألوم الكلمات ولن أنهال بالتأنيب والتوبيخ على أحرف بريئة لا ذنب لها سوى أنها تصف امرأة من نور.. روحاً من جمال، أخلاقاً من سمو، أفعالاً من صدق..

ها هي الأحرف تفر من جديد، أجاذب الكلمات والأسطر فتتشابك فيما بينها معلنة العصيان والتمرد، لم يبق لدي ما أخط به إلا الليل، الليل ونجومه وقمره

كينونةٌ فُطرت على الخير وجُبلت على الإحسان، ما سارت على درب قط إلا وأزهر بجمال مرورها وحسن كلامها وإشراقة روحها، (أمي) التي تُحيل ظلمة الليالي نوراً، وشدة الشمس فيئاً، (أمي) التي ما خبت أرواحنا يوماً إلا أوقدتها بشعلة الإيمان، وهمة الإسلام، كلما مالت الدنيا علينا وأوشكنا أن نميل، كلما ضاقت بنا السبل وكادت نفوسنا أن تضيق.. كلما كثرت الطرق وبدأنا نضيع، كلما وهنت أجسادنا وجلسنا في منتصف السبيل ليس بأعيننا إلا الدموع وليس بقلوبنا إلا النحيب.. كنتِ أنت البلسم لقلوبنا والدموع لمقلنا والرشد في ضياعنا والحقيقة في تيهنا والسعة في ضيقنا والاستقامة في ميلنا، كنت النور..

ويكفي النور ليعبر عن إشراقكِ في ظلمة الأيام، ليصف توهجك في حلكة الانطفاء، النور الذي جعله الله في معشر الإناث، فالأنثى أمٌ حتى لو لم تنجب، العاطفة التي جعلها الله في بنات حواء، فأزهرت في أفئدتهن ليناً ورقة، (الأمومة) سر بديع لا يمكن تفسيره أو استوضح ماهيته، أو تطويره وإجراء تحديثات عليه، منذ الأزل وجد في كينونة المرأة وذاتها، وتباينت النساء في هذا السر الجميل فمنهن من امتلأت حتى فاضت به، ومنهن من اقتصدن، وأخريات أودعنه قرارة ألبابهن، لم يقتصر الاختلاف في هذا الشعور على كمه وشدته عند النساء بل تجاوز ذلك ليكون عند الفتاة في حُلة عطف وحب ورحمة أو اهتمام وحرص وخوف لكن من بلاغة هذه المعجزة الشعورية وجمال معانيها أنها تتجلى بأسمى مظاهرها حين تبدأ بألم المخاض، فتصقل هذه العاطفة وتتبلور في لحظات رهيبة كمتاهة معقدة كبيرة، لا تملك فيها حواء إلا صدق إحساسها وقوة عاطفتها فتصل بهما لحقيقة هذا السر وكنهه العظيم، تخرج من هذه المتاهة متعبة الروح، لكن يقظة الفؤاد فلا يغفو قلبها بعد ذلك أبداً، أليس قلبها مَسكَن أفراح بنيها ومُسكِن أتراحهم أيضاً، هي مأوى أرواحهم الضالة وموطن غربتهم ومقر سعادتهم ومستقر البسمات والدموع..

فكيف ينام قلب أم؟ صدق أمير البيان الرافعي -طيّب الله ثراه- حين قال: "تبارك الذي جعل في قلب الأمِّ دنيا من خلقِهِ هو، ودنيا من خلقِ أولادها. تبارك الذي أثاب الأمَّ ثوابَ ما تُعاني، فجعل فَرحَها صورةً كبيرةً من فرح صغارها". ها هي الأحرف تفر من جديد، أجاذب الكلمات والأسطر فتتشابك فيما بينها معلنة العصيان والتمرد، لم يبق لدي ما أخط به إلا الليل، الليل ونجومه وقمره، الليل الذي يقرضني بعضاً من نور نجومه وبريق قمره حتى استأنف الحديث عن (أمي) التي أمدت بناني وبياني بصدق العبارة، وروح المبدأ.. (أمي) مِداد روحي، وقصيدة عمرٍ أزهر بكلماتها وأينعت ثماره بتوجيهاتها وأُضيئت ثناياه بأنوارها، فلا غيب الله (أمي) عن أرواح تأفل دون نورها.. لا غيب الله نجمتي.. لا غيب الله نجمتي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.