شعار قسم مدونات

نحن أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى شهر رمضان

blogs رمضان

هل الدفع لكراهية رمضان فعلا منهجا؟ هل يمكن أن نكره رمضان بأفعالنا ونحن نعشقه بقلوبنا وعقولنا؟ كنت قد بدأت مقالي هذا تحت عنوان أكثر حدة طارحا تساؤلا مستفزا بعنوان لماذا أكره رمضان، الإشكالية أن هذه الصياغة للسؤال تحفز الجميع ضدك لأنك تتهم الشهر بدلا من أن تعلن مقصدك الرئيس وهو استنكار ما يفعله المسلمون وخاصة في السياق الشرق اوسطي وبصورة أكثر مجاهرة في مصر أحد اهم الدول العربية التي اشتهرت تاريخيا بالعبق الروحاني المكثف لأيام رمضان ولياليه. ومن ثم فقد يكون من المفيد للنقاش ودحرا للانتفاضة العاطفية أن نحول السؤال من لماذا أكره أو نكره شهر رمضان إلى لماذا أكره سلوكيات الكثير من المسلمين في شهر رمضان. لماذا أكره النسخة المعاصرة الجديدة من رمضان؟ لماذا أكره اختفاء رمضان الحقيقي في ضوضاء رمضان الاستهلاكي.

  

هذه التساؤلات مرجعتيها أن رمضان شهر فريد وشهد الكثير من الاحداث الفارقة التي توثق قيمته وبركاته وروحانياته. ففي العام الثاني الهجري شهد رمضان غزوة بدر وفي عام 1973 شهد رمضان حرب أكتوبر وعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف أما رمضان عام 2019 فيشهد الاستمرار الفذ لبرامج رامز الساقطة ومسلسلات تتكون من مقاطع مشرذمة من الانحطاط اللفظي والبصري والأخلاقي وانعدام العلاقة مع قيمة الشهر الفضيل. إن المتأمل لتفاعلنا مع شهر رمضان في العقد الاخير وبصورة أكثر وضوحا في الخمس سنوات الاخيرة يرى شواهد لتحوله إلى أحد اسوء شهور العام. تحولنا في هذا الشهر إلى أمة متكلفة مستهلكة تابعة. والاكثر اهمية انه لا يوجد اي تأثير لرمضان فيما بعد رمضان. مثله مثل الحج والعمرة تماما والتي أصبحت في مجملها طقوس وليست تجارب فارقة في حياة الانسان. لقد تعلمنا أن فلسفة الحج كطقس جماعي تتشابه بل تذكرنا بيوم الحشر ملبساً وهيئة وإزالة للفوارق بين الناس لكننا حولناه لمناسبة للتباهي والتفاخر والحصول على الحجرة العلوية الأنيقة التي تطل على الحرم من أبراج الفندق الفاخر. بل ولمزيدا من الطبقية صنف الحج إلى الاقتصادي والفاخر بل والفاخر السريع لان البعض مشغول جدا في أعماله الدنيوية لدرجة ان حتى فريضة الحج تستخدم الأموال لاختصارها قدر المستطاع ورفع مستويات الترفيه فيها إلى ما تجاوز ما تقدمه المنتجعات السياحية المخصصة لقضاء العطلات.

 

لم يعد للشهر مردودا أخلاقيا خلال الشهر نفسه وبالقطع فيما بعد انقضاؤه. شهر به كل ما ليس له علاقة بأي قيم إيجابية دينية أو إنسانية والأهم اللا مردود الاخلاقي

إذن الواقع وللدقة اللفظية واللغوية والقيمية والدينية فلا يمكن كراهية شهر رمضان ولكن يقينا هناك تصاعد للمشاعر السلبية من تصرفات أغلب المسلمين في شهر رمضان، ما هذا الكم من الطقوس المستجدة التي لا علاقة لها بالدين، لقد تحول الشهر إلى شهر تدين مفتعل غير حقيقي أو شهر طقوس احتفالية لا علاقة لها بفضل الشهر الكريم. الإسلام ليس دين تدين موسمي وباقي المواسم نرتدي فيها عباءة أخرى وهو ليس دين طقوس تنفصل فيه العبادات جذريا عن سلوكنا الحياتي. وكذلك رمضان الذي شرع فيه الصيام تهذيباً للنفس تحول اليوم الي شأن آخر فهو يعني للكثيرين تكاسل أو إحجام عن العمل وتبذير وإسراف وسهر يومي أمام شاشات تلفزيون تحطم العقل والوجدان والجسد بل والروح أو في الخيام الرمضانية وهي التقليعة الحداثية للتسلية الفجة حتى طلوع الفجر.

 

لقد تحولت ممارسات الكثير من المسلمين العرب في شهر رمضان إلى كل ما هو نقيض لفلسفة الصيام بقيمتها الروحانية العميقة. لقد أصبح شهر الاستهلاك والطعام المبالغ فيه والتفاخر والتعالي والكسل والمسلسلات المليونية الانتاج والصفرية القيمة. نعم، ففي رمضان الشهر الفضيل نستسلم تماما لساعات مطولة لمشاهدات تليفزيونية اعدت بعناية من طرف من يهمهم غياب العقول واجهاض قيمة رمضان وتفكيك الأسرة وضياع المجتمع. اختفت الفلسفة العميقة لمفهوم الصوم وامتداده الروحاني والأخلاقي والإنساني إلى باقي شهور العام حتى تتجدد مع العودة الدورية للشهر الفضيل.

 

لم يعد للشهر مردودا أخلاقيا خلال الشهر نفسه وبالقطع فيما بعد انقضاؤه. شهر به كل ما ليس له علاقة بأي قيم إيجابية دينية أو إنسانية والأهم اللا مردود الاخلاقي. حتى البرامج الدينية اصبحت مسطحة ساذجة الكلمة العليا فيها للتكرار التاريخي أو للفتاوى الهوائية. مهم جدا أن نفكر ونغير ونتأمل ونرفض تحول جوهر القيم إلى عدم بلا معنى. لقد أذهلني مداخلة ساخرة من أحد الاصدقاء يتخيل ما سيكتبه عام 2119 مفتقدا أجواء رمضان 2019، فيجد أن ما يفتقده هو المسلسلات وبرامج الترفيه شديدة التفاهة منحدرة المحتوى الأخلاقي. سيفتقد الإعلانات التي لا تنتهي عن منتجات استهلاكية ومجمعات عقارية وهمية ثم ما يليها من تسولات إعلانية للتبرع لنفس المستشفى لأكثر من عقد كامل بينما باقي الخدمات الطبية في نفس الدولة، فيما وراء التاريخ.

 

إن شهر رمضان الكريم في صيغته المعاصرة أصبح ضحية كبرى لتداعيات سيطرة الثقافة الرأسمالية التي أصبحت المروجة الكبرى للاستهلاك الشرس الذي يحول كل المناسبات وخاصة الروحانية كما في حالة عيد الميلاد في الغرب إلى مناسبات للاستهلاك والجشع والسرطان الإعلاني الإعلامي الضاغط لكي تنفق وتنفق وننفق وتنسى تماما مغزى الحدث وفلسفة الطقس. نعم فقد تحول الشهر كباقي المناسبات الدينية والاجتماعية في هذا العصر الرأسمالي اللا روحاني وأحيانا أيضا اللا انساني إلى سلعة تسوق كمناسبة ترفيهية استهلاكية بمكياج ديني وقناع طقسي.

  

لا يمكن أن يكون هذا المشهد وليد المصادفة ولكنه مقصود وممنهج ومع سبق الاصرار والترصد لأن معظم من يقودوا أمتنا يرغبون في مواطنين جاهلين مغيبين بل وسطحيين قشريين

يبدو أن قيمة رمضان ومعنى وفلسفة وجوده ركنا من أركان الإسلام تنسلخ تدريجيا من الوعي الجمعي حيث يفرغ الشهر تدريجيا من عمق معانيه ودلالات شعائره ومغزى التأمل في فرضه. ثم نتحول تدريجيا إلى عشق الطقوس المصطنعة والاحتفاليات الممزقة للأمة حين تدعو للإسراف المحموم وللطبقية المجتمعية. والمذهل أن كل من تناقشه يقفز في وجهك صارخا افهموا رمضان فهو ليس شهر الامتناع عن الطعام والشراب فقط. حقيقية ولكن كل الدلائل توضح أن ما تبقى من رمضان هو هذا الامتناع الذي يبرر كل شيء أثناء ساعات الصوم فتمكون كسولا عصبيا غير منتجا. أو ما بعد الصوم تتحول إلى وحش مستهلك لا يمكن مكافأته إلا بأعلى معدلات الاستهلاك وأحط مستويات مخاطبة الحواس والشهوات. لقد أصبح رمضان مجرد ظاهرة إعلامية ومناسبة تسويقية وفرصة للتجارة والتربح مزيد من سحق الفقير ثم نضع فانوس عملاق على مدخل الخيمة الرمضانية التي سنتمايل فيها على الأنغام الراقصة وندخن النرجيلة حتى الثمالة.

 

أتذكر مقالا صغيرا كتبه الراحل غازي القصيبي عام 2008 بعنوان رمضان وداعاً. عبر فيه عن استغرابه من رمضان الجديد المعاصر الذي أصبحنا نروج له ويتميز بكل السلبيات. ثم تسأل أي هدف من أهداف الصيام الربانية يتحقق في رمضان الجديد. أي تقوى يمكن أن يحس بها شخص يلهث متلمظا من حسناء في مسلسل إلى حسناء في مسلسل. أي شعور بمعاناة الفقير يحس بها صائم يأكل في ليلة واحدة ما يكفي قرية أفريقية بأكملها. أي صحة يمكن أن تجيء من التهام واثب لأطعمة تقود إلى مختلف أنواع المرض. أي روحانية يمكن أن يحس بها الصائم في شهر يجسد المادية الطاغية بدءاً بالإعلانات وانتهاء بجوائز المسابقات.

 

لا يمكن أن يكون هذا المشهد وليد المصادفة ولكنه مقصود وممنهج ومع سبق الاصرار والترصد لأن معظم من يقودوا أمتنا يرغبون في مواطنين جاهلين مغيبين بل وسطحيين قشريين حتى في انتمائهم الروحاني والعقيدي. اختم كلامي وأقول مع الاعتذار للإمام الشافعي نعيب رمضاننا والعيب فينا وما لرمضاننا عيب سوانا. حقا نحن أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى شهر رمضان الكريم المبارك.

كل عام وأنتم بكل الخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.