شعار قسم مدونات

استثمار الموتى بين الوعي والمخيال.. الأمير عبد القادر أنموذجا

blogs - abdelqader

يحظى أغلب الموتى بمراتب رفيعة في كل الثقافات العالم دون استثناء، قد لا يعود الأمر إلى أعمالهم البطولية فحسب؛ بل يعود الأمر إلى استثمار الميت رمزيا في الحياة السياسية والاجتماعية، لأن الموتى لا يُرافعون ولا يدافعون عن أنفسهم. كما أن التّاريخ في مجمله هو تاريخ الأموات، والكتابة التاريخية كفعل تأريخي يتجه صوب الماضي أكثر من الحاضر والمستقبل، ويكون موضوعه في الغالب ذكر أخبار الأموات. يلاحظ بأن المجتمعات الوثنية حولت الأموات إلى آلهة وأنصاف آلهة، ونسبت لهم من الأمور ما لا يخطر على بال أو يتصوره مخيال، ولقد قال الفيلسوف اليوناني زينوفانيس إن الأبطال والآلهة من صنع الناس عبر التاريخ، حيث يتم توظيف الميت توظيفا اجتماعيا، وسياسيا، وميثولوجيا.

   

إن أعظم الأعمال الفلسفية الكبرى لا تخرج عن قراءة أعمال الفلاسفة الموتى، فالتفكير الفلسفي هو قراءة آنية في موضوعات طرحها الموتى منذ قرون خلت. ولا أحد ينكر أن أفلاطون وأرسطو ظلا محور الفلسفة سواء الإسلامية أو الغربية في كل الأزمان تقريبا، حتى بات من المسلم به أنه لا يجوز للمتفلسف خوض غمار الفلسفة إن لم يُعرج على فلسفيتهما.

 

استثمار الميت ليس تشويها للتاريخ بل هو علة حركته، فعندما يتمثل المغامر شخصية صلاح الدين فإنها تساعده على الثورة وقلب ما هو كائن من معكوس ما ينبغي أن يكون

إن استثمار الرموز ظاهرة تاريخية تتجاوز الحقيقة ونظريات المعرفة في كل أطوارها التاريخية، فالجماعات البدائية كانت تستحضر الميت في طقوسها التعبدية من أجل رفع الضرر أو جلب المنفعة، بل أصبح الميت عند كثير من الشعوب البدائية طوطما تتناسخ روحه مع المخلوقات الحية، ويعود من جديد في دورة حياة ذات بعد ثيولوجي رهيب. والميت له حضور قوي في مجال التأويل والتفسير، فرؤية الميت كانت ولا زالت تلهم الأذكياء صيغ توجيه الكتل الجماعية إلى ما تريده أو صرفها عما لا تريده، إما عن طريق المنام أو النّص الذي تركه الميت، ونلاحظ ذلك بوضوح في الطرق الصوفية.

 

استطاع أفلاطون أن يستثمر سقراط بعد موته، فجعل لسانه ينطق باسمه ليس حبا في سقراط وتمجيده فحسب، بل احتيالا على السّاسة من أجل التحدث في أمور السّياسة، فلا يمكن أن يُجرِّم القانون الموتى، كما لا يمكن للحاكم أن يقتص من الفاني. إن أفلاطون أراد من خلال التخفي وراء سقراط استثماره لنقض نظرية المعرفة السفسطائية ليتسنى له هدم النظرية السياسية القائمة، والثّورة على الحكومة الديمقراطية الفاسدة، لقد كان سقراط هو الشّاهد وأفلاطون هو القائل، ونجح أفلاطون أيّما نجاح في استثمار سقراط في محاورته الفريدة التي لازالت إلى اليوم تثير نقاشا علميا كبيرا وحيا.

 

استثمرت الفرق السياسية والكلامية في الثقافة الإسلامية الموتى من أجل تأسيس المذاهب وإضفاء الشرعية، خاصة أهل السنة والجماعة في توظيفهم للنبي وبعض صحابته كالفاروق وأبي هريرة، ثم الشيعة في استثمارهم بالخصوص للحسين بن علي وبعض الأئمة.   لا أحد ينكر دور المخيال في صناعة النماذج (الصالح / الفاسد)، فالميت المُستحضر ليس بالضرورة تصوره كما يُقدم، بل كان في الحقيقة أبسط من ذلك بكثير، فالمخيال هو الذي يلبسه من الصفات التي لم تكن فيه، والسجايا التي لم يتصف بها، وذلك كله بغية رسم الإنسان الكامل الذي نفتقده في واقعنا المعاصر. ومن جهة أخرى، تفرض حركة التاريخ وجود المحرك الذي يتحرك (نقيض مبدأ أرسطو)، فالموتى يصنعون التاريخ من خلال ما نضفيه من قيم عليهم، فصلاح الدين الأيوبي نرسمه اليوم كما لو كان فريد زمانه ووحيد عصره، ونقدمه في الثقافة مثلما نقدم المستحيل أو المُمتنع، بينما كان صلاح الدين رجلا كباقي الرجال يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

 

إن استثمار الميت ليس تشويها للتاريخ بل هو علة حركته، فعندما يتمثل المغامر شخصية صلاح الدين فإنها تساعده على الثورة وقلب ما هو كائن من معكوس ما ينبغي أن يكون. إن التناقض بين النماذج العينية يفرض إيجاد النظير والنقيض كأنموذج يقلص مسافة التباين بين النماذج المتصارعة على ساحة التاريخ. إن إيديولوجيا المكر والمغالبة السياسية هي التي تستحضر بعض الأموات لتحقيق المكر التاريخي، قد يكون الميت المستحضر رجلا أثر في التاريخ بأعماله البطولية أو العلمية كما يمكن أن يكون مجرد ما نسجته مخيلة المتلاعبين بألباب الناس وعقولهم، فكثير من الأسماء المخترعة لم توجد أصلا.

 

ومن خلال ما سبق، لاحظنا أن الأمير عبد القادر كميت منذ أمد ليس ببعيد يُستحضر اليوم في اللعبة السياسية والثقافية من أجل لعب أدوار رمزية مهمة في تاريخ ما بعد الأمير. وبما أن السياسة تقوم على فكرة الممكن إذ يُسمح فيها بما لا يسمح في غيرها من العلوم العملية، لذا أعاد الساسة الأمير بقوة في الخطاب الرسمي الجزائري خاصة بعد الأحداث الدموية التي حدثت في بداية التسعينات، لكن هل عودة الأمير كانت عودة الذات لذاتها أم عودة الذات للعبة الطوطم الأبدية؟

 

إن التوظيف السياسي للأمير يضعنا أمام إشكالية سياسية، تتفرع إلى قضيتين أساسيتين تنتهيان عند التناقض أو التداخل، فالقول بأن الأمير مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة يقود أول الأمر افتراض صدقها أولا قبل عكسها، وهذا يستوجب منا التعامل مع الأسئلة الآتية: هل يمكن اعتبار الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الوطنية الحديثة؟ وما المعيار؟ ولما الرجوع إلى الأمير بذات؟ وأين يكمن اللامفكر فيه؟

 

أقطاب الحركة الإسلامية لم يعتبروا الأمير عبد القادر نموذجا للدولة الخلافية، ولم تُطرح تجربته كبديل يضفي الشرعية على القول السياسي لعدة اعتبارات وجيهة من حيث البعد السياسي

والقضية الثانية تتجه نحو القول بأن الأمير أسس إمارة دينية على شاكلة الإمارات الإسلامية الصغرى، فهي من حيث البعد الفكري لا تخرج عن تنظيم اجتماعي بسيط، ولهذا وذاك يستوجب منطق الجدل التعامل معها بطرح الأسئلة التالية: هل البيعة هي بيعة جهادية أم بيعة سياسية؟ وهل يصح سياسيا اعتبار إمارة الأمير نموذجا للدولة حديثة؟ ما المعيار؟ وأين اللامنطوق في نفي طابع الدولة الوطنية عنه؟

 

شهدت الجزائر قبل الاستحمار الفرنسي دولة قوية في أسطولها البحري ممثلة في حكم الدّايات، إلا أن الدولة الجزائرية لم تكن جزائرية بالمعنى التام للكلمة نظرا لارتباطها بالباب العالي، ومنه كانت مجرد ولاية عثمانية، مع العلم أن نجل الأمير عبد القادر السيد محمد عبد القادر الحسني قال في تحفة الزائر: " أول من أسس أمر الدولة في الجزائر رجل من قرية أجي باد، انتقل إلى جزيرة مثلين المعروفة لهذا العهد بالمدلي، واسمه عروج بن يعقوب ولقبه باربروس الأول، أي صاحب اللحية الحمراء."  ولقد لعب الفكر القومي في زرع ثقافة نفي الحقبة التركية واعتبارها مجرد احتلال، لذلك لا يمكن أن نسمي الأقطار الخاضعة لها دول أو إمارات، بل مجرد كانتونات تركية كما يقترحون.

 

كان الفكر السياسي بعد استقلال الجزائر سنة 1962 يتجه نحو نمذجة الدولة الجزائرية ضمن المنظومة الأفروأسيوية، والتي تجعل الدولة الوطنية تتأسس على الفكرة الثورية المنبثقة من الشعب، فلم يكن للأمير في فترة الستينات والسبعينات من ذكر أو حضور، ولم يُذكر إلا في برامج التعليم على أنه شاعر جزائري وأديب.

  

إن التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت بعد 5 أكتوبر سنة 1988 أخرجت للسّاحة السّياسية تيارات سياسية، تخندقت في خندق المعارضة الراديكالية، وكان أشهرها على الإطلاق التيار السلفي ممثلا في جبهة الإنقاذ. والتي طرحت نموذج الدولة الإسلامية كبديل عن الدولة العلمانية، وتبنوا فكرة إعادة الخلافة الإسلامية للوجود بعد أن تهاوت سنة 1924 بتركيا. 

 

إن أقطاب الحركة الإسلامية لم يعتبروا الأمير عبد القادر نموذجا للدولة الخلافية، ولم تُطرح تجربته كبديل يضفي الشرعية على القول السياسي لعدة اعتبارات وجيهة من حيث البعد السياسي، ولأسباب تاريخية وأخري دينية تتمثل في كونه متصوفا وطرقيا. وعليه، تم استثمار الأمير من قبل القوى الوطنية من أجل توجيه الصراع السياسي نحو فلسفة المغالبة بالمخيال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.