شعار قسم مدونات

إلى الصين لا إلى روما.. طرق الحرير المعكوسة

blogs طريق الحرير الجديد

كان الشاب البريطاني بيتر فرانكوبان يافعاً في منتصف الثمانينات عندما بدأ هوسه بالخرائط وكتب التاريخ. كانت هدية خريطة العالم في عيد ميلاده تعني له الكثير بالنسبة لطفل يفترض أن تشغله الألعاب، إلا أن هذا الهوى سيكون مفصليا في طريقة تفكيره حيث اكتشف أن كتب التاريخ والجغرافيا في المدرسة تتحدث فقط عن الدول التي حقق الغرب فيها انتصارات بينما تتجاهل مناطق واسعة من العالم في شرق آسيا وجنوبها ووسطها وشبه القارة الهندية وآسيا الصغرى ومناطق في أفريقيا والشرق الأوسط.

 

اكتشف بيتر نفسه مبكراً ليحدد مساراً أكاديمياً بحثياً في جامعات مرموقة مثل كامبريدج وأكسفورد في إعادة كتابة التاريخ من منظور بحثي لا استشراقي فوقي يرمي علينا تهم الفشل والتخلف أو يدعي أن الاستعمار كان منقذنا من المجاهل والظلمات، يدير بيتر اليوم مركز الدراسات البيزنطية في جامعة أكسفورد ويدرس فيها التاريخ العالمي وصدر له مؤخراً مؤلفان، الأول: "طرق الحرير.. تاريخ جديد للعالم"، والثاني: "طرق الحرير الجديدة.. حاضر ومستقبل العالم". لن أوفي بيتر فرانكوبان حقه في البحث والتمحيص والتدقيق في كبريات مكتبات أرقى وأعرق الجامعات والمؤسسات لإنتاج هذين الكتابين المعرفيين وبهذا الأسلوب السلس في أكثر من ألف صفحة.

 

طرق الحرير.. تاريخ جديد للعالم

يرصد بيتر، في الكتاب الأول، تطور التعارف بين القبائل والشعوب في العالم القديم الممتد بين البحر الأسود وقمم الهملايا مرورا بالشام وفارس ومصر. هذا التعارف نتج عنه احتكاك ثقافي وديني ومعرفي وتجاري أسس لخلق طريق الحرير لتتحول إلى طرق منذ ما قبل الميلاد زمن الإمبراطورية الفارسية والإسكندر الأكبر وصولاً إلى زمن طريق الحرير النفطي والغازي والاتصالاتي والمعلوماتي بتنافس صيني أمريكي ناعم وشرس.

     

المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان
المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان
    

لا يمكن قراءة هذا الكتاب الضخم إلا بوجود خريطة ترصد لنا الجغرافيا السياسية الاقتصادية الاستراتيجية من مراعي ومزارع وأنهار وجبال ومضائق لفهم أسماء مدن ودول تتردد منذ آلاف السنين أبرزها إيران وأفغانستان والعراق ودول آسيا الوسطى وحوض قزوين والبحر الأسود. لا بد من محرك بحث غوغل مع كل صفحة لتقصي اسم هذه المدينة أَو تلك وهذا القائد أو ذاك. في هذا الكتاب دروس في التاريخ والجغرافيا بما يربط الماضي البعيد بحقبات زمنية لاحقة وصولا إلى اليوم بشكل تراكمي مبني على معطيات وفيرة.

  

لكن الخلاصة المؤسفة في هذا الكتاب أن منطقتنا وباعتبارها جزءا من طرق الحرير البرية والبحرية والجوية منذ زمن الحرير والبهارات إلى الخيول المغولية والرقيق والذهب الأفريقي وصولا إلى النفط والغاز والاتصالات والبيانات فإنها لن تستقر لا على المدى المنظور ولا على المدى البعيد. وبما أن لكل زمان دولة ورجال فإننا في مرحلة انتقالية بين تراجع الولايات المتحدة وتقدم الصين ستحسم بحدود 2040، وعليه تبقى ثرواتنا منهوبة وأنظمتنا قمعية فاسدة طالما توفر مصالح المستعمر الجديد.

 

طرق الحرير الجديدة.. حاضر ومستقبل العالم

أما الكتاب الثاني، يخلص فيه بيتر إلى أن كل الطرق كانت تؤدي إلى روما أما اليوم فهي تؤدي إلى بكين. وبعدما كانت القرارات تصنع في باريس ولندن وبرلين وروما، الآن ستصنع في بكين وموسكو ودلهي وطهران وأنقرة، إذ ليس هناك من مثال أبسط على مستقبل المنطقة الممتدة من شرق المتوسط حتى المحيط الهادئ إلا استثمارات ترمب في كازاختستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان وأذربيجان وأرمينيا وكذلك إيران في 2012 رغم محاولاته عزلها منذ 2017. أما الثروات في الموارد الطبيعية والنفطية والزراعية فلا تقدر.

 

السياسة الأمريكية لترمب قاربت كثيراً بين هذه الدول وعززت من الامتداد الصيني حول العالم، إذ أن الصين تقرض الدول بمبالغ طائلة دون طلب قواعد عسكرية أو مشاركة في حروب

تقدر شركة بريتيش بتروليوم BP تقدر أن 70% من النفط و65% من الغاز موجود في الشرق الأوسط وروسيا ووسط آسيا. ونسبة الغاز لا تشمل تركمانستان التي تملك حقلاً هو الثاني في العالم. وهذه المناطق تمثل نصف إنتاج القمح عالمياً وإذا أضفنا إليها جنوب شرق آسيا فإنها مسؤولة عن 85% من إنتاج الأرز. وامتلاك الثروات الطائلة يعني استثمارات طالت أندية كرة القدم العالمية من قبل مشترين صينيين مثل فرق ميلان وإنتر ميلان وأندية إنكليزية عريقة. هذا عدا عن استثمارات دول خليجية في مانشستر سيتي (الإمارات) وباري سان جيرمان (قطر) ورجال أعمال من إيران ووسط آسيا في فريقي إيفرتون وأرسنال.

  

وبفعل زيادة السكان في الصين والهند وتركيا وتايلند ودول آسيوية أخرى فإن عدد المسافرين جواً سيصل إلى 7.8 مليار في 2036 وفق اتحاد النقل الجوي الدولي. ووفق بوينغ فإن السوق تحتاج إلى 500 ألف طيار جديد خلال العشرين سنة المقبلة. وانفكاك بعض الدول من العزلة كالصين سيزيد عدد المسافرين.

 

إن زيادة عدد المسافرين تعني زيادة الإنفاق، فالمسافرون الصينيون في 1990 كانوا ينفقون حوالي 500 مليون $ سنوياً، أما اليوم فإنهم ينفقون أكثر من 250 مليار $، بزيادة 500 ضعف، وهو ضعف ما ينفقه الأمريكيون تقريباً. ويقدر عدد الصينيين المسافرين في 2020 نحو 200 مليون مسافر وهذا يعني بالتالي ازدياد فرص الاستثمار والعمل في قطاعات الخدمات والمواصلات والسياحة والترفيه، إذ أن شركة سكاي سكانر مثلاً استحوذت عليها شركة صينية في 2016 بصفقة قيمتها 1.7 مليار $. علماً أن 5% من الصينيين لديهم جوازات سفر فلكم أن تتخيلوا ما الذي ستفعله كل 1% زيادة في حجم الإنفاق والطلب.

  

رغم كل الفرص والموارد فإن تحديات كثيرة، وفق بيتر فرانكوبان، تواجه دول طرق الحرير مثل الأمن والسلام والمياه وحقوق الإنسان. مثلاً، بينما تستغل البيانات الرقمية في الغرب لجني ثروات طائلة رغم الأسئلة عن مشروعيتها وأخلاقيتها، فإن دول طرق الحرير تستغل البيانات سلاح مراقبة لمصالح الدولة. تواجه دول طرق الحرير مشكلات كبيرة في نقص المياه والتلوث والأمن والحالة التنافسية الشديدة خصوصاً بين الهند والصين، والصين وروسيا، وباكستان والهند، والصين والدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي. أما التحديات الخارجية فتبدأ من وصول ترمب للرئاسة إلى صعود اليمين المتطرف بأوروبا.

 

لكن السياسة الأمريكية لترمب قاربت كثيراً بين هذه الدول وعززت من الامتداد الصيني حول العالم، إذ أن الصين تقرض الدول بمبالغ طائلة دون طلب قواعد عسكرية أو مشاركة في حروب. وتستثمر في بنى تحتية دون إخضاع سياسات الدول خلافاً للولايات المتحدة. وهذا دفع إدارة ترمب للتحذير من ذلك. والخطر الصيني، وفق الأمريكيين، قد يكون صحيحاً. إذ أن طاجيكستان تنازلت في 2011 عن أراض في شرق البلاد لصالح الصين مقابل مسامحتها على ديونها. فواشنطن تحذر من أن الصين تغرق البلاد في قروض حتى تستولي عليها بطرق غير مباشرة عبر شركات مثل استئجارات لأكثر من مطار وميناء حول العالم.

   

  

يمثل مشروع "الحزام والطريق" الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جينبينغ إحياء طرق الحرير الجديدة ليس براً فحسب بل بحراً أيضاً لربط موانئ جنوب وشرق آسيا وأفريقيا وصولاً إلى بحار قزوين والأسود والمتوسط، لا بل يتعدى ذلك إلى دول الكاريبي. وهو رغم ملامحه الاقتصادية إلا أنه سياسي بامتياز، البارز أيضاً في المشروع الصيني العملاق أنه يشمل دوراً رئيسياً للصين في "حزام وطريق رقمي" عبر دراسات ومشاريع في مجالات العلوم والتكنولوجيا والأبحاث من أجل تطوير البنى التحتية وحماية البيئة وتقليل خطر الكوارث وإدارة موارد المياه والأمن الغذائي وإدارة المواقع السياحية والآثار، والصين تعتبر أكبر منافس للولايات المتحدة في التكنولوجيا والاتصالات والذكاء الصناعي. وأزمة شركة هواوي خير دليل على مخاوف واشنطن سيطرة أخطبوطية لهذه التكنولوجيا على البنى التحتية للاتصالات حول العالم. ومع ذلك فالصين تنظر بحذر شديد لتعامل مواطنيها مع الإنترنت وتضعهم تحت مراقبة.

 

يواجه "الحزام والطريق" انتقادات من باحثين صينيين يرون أن بكين تصرف مليارات الدولارات على "دول فاشلة" مثل كوريا الشمالية وفنزويلا تساعد دول في الشرق الأوسط مليئة بالأثرياء، وكل ذلك من عرق ودماء العمال الصينيين. هذه الانتقادات تقابلها أخرى خارجية عن "استعمار صيني" بأدوات ناعمة، من الناحية الفكرية، هناك آراء تشير إلى أن النموذج الصيني سمح للعالم لتطوير فهم جديد للاشتراكية وأن النموذج الغربي للتحديث ليس وحيداً وهناك خيارات أخرى، وهذا يعني أن انتصار نموذج "الديمقراطية الليبرالية" معلق إن لم يكن قد انتهى. نعم هناك عالم جديد ينبثق في آسيا لكنه ليس حراً.

 

أبحاث عدة تجرى الآن حول طرق الحرير في الإنثروبولوجيا والآثار وعلوم الأحياء واللسانيات باستخدام تكنولوجيا متقدمة جداً. مشروع "الحزام والطريق" هو مشروع القرن للصين، ولكن نجاحه لا يعني أنه على حساب نجاح دول أخرى. فشروق الشمس شرقاً لا يعني غروبها في الغرب، أقله حتى الآن. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.