شعار قسم مدونات

تجربتي مع فوبيا القطط!

blogs قطط

مرت سنة على دخولي غمار تجربة لم أكن أتطلع لأن أخرج منها منتصرة بقدر ما كنت آمل اختبار مقدرتي على خوضها؛ تجربة مثلت تحديا كبيرا بالنسبة لي، تافها بالنسبة لغيري ممن لا يعانون ما كنت أعانيه. فوبيا القطط، أو ذلك الرهاب الذي جعل القطط تبدو لي كائنات شريرة -حتى لا أقول متوحشة-، لا أحبها ولا أطيق البقاء معها ولو لدقائق قليلة في مكان مغلق. هو في الحقيقة عائق نفسي وجدت نفسي أتحداه حين وافقت على تقبل فكرة التعايش معها داخل بيت واحد.

   

ولم تكن قطة واحدة بل اثنتين؛ قطتان صغيرتين بعمر الثلاثة أشهر، ضئيلتا الحجم لكنهما استطاعتا تحويل وجودي في البيت إلى جلسات تعذيب نفسي وجعلتاني أمر بوقت عصيب كاد يتلف أعصابي؛ بدءا بالإحراج الذي سببتاه لي في كل مرة أصرخ فيها أو أركض مهرولة بجثتي الضخمة هربا منهما وكأنما أفر من ديناصورات عملاقة، وصولا إلى الهلع الذي لازمني لفترة منذ قدومهما ودفعني لأرى كوابيس شتى تنوعت ما بين هجوم جيوش من القطط علي أو التهامها إياي.

     

بشكل عام، ولتجنب الوقوف عند تفاصيل استجاباتي السلوكية الغريبة واللاعقلانية آنذاك، يمكنني أن أصف ما كنت أعيشه كمحاولة للبقاء داخل فضاء أصبحت أنا المتطفلة عليه بعد أن سمحت لهما باقتحامه؛ أتأكد من إغلاق باب الغرفة قبل أن أجلس فيها وألتفت يمنة وشمالا قبل أن أغادرها وأنظر أسفل المائدة وخلف الباب وفي الأركان وبين الفراغات تحسبا لظهور الخطر في أية لحظة. مجهود مرهق بذلته في البداية وبدأ ينقص شيئا فشيئا مع مرور الوقت، دون أن ألاحظ كيف ولا متى حدث هذا التطور.

  

لدي عرفان بجميل هاتين القطتين الرائعتين علي؛ بفضلهما أخيرا، أصبحت أرى القطط العمياء والعرجاء والهزيلة والمصابة بأمراض جلدية والمعذبة وأصبحت أرى الاستغاثة في عينيها

وجدتني فجأة أستطيع النظر في عينيهما وأتحمل وجودهما في نفس الغرفة معي بباب مفتوح ثم بباب مغلق بعد ذلك… أصبحت أستطيع أن أنام دون أن أدفن جسدي كاملا تحت اللحاف لدرجة أكاد أحبس بسببها أنفاسي… استطعت أن ألمس رأسيهما بأحد أصابعي بسرعة خاطفة ذات يوم ولم أصدق ذلك، ثم تجرأت على وضع كفي كاملا عليهما، وبعد بضعة أشهر أقدمت على حمل إحداهما بعد أن لفت لي أختي جسدها في ثوب ثم أمسكت بالأخرى "عارية" بين يدي، بعد فترة من ذلك أصبحت أجدهما جميلتين جدا، أحملق فيهما مطولا وأضحك كالخرقاء من دون سبب، أكلمهما شبه متيقنة من أنهما تستوعبان ما أقوله، أجري ورائهما بعدما كانتا تركضان خلفي بينما أفر هاربة، أضمهما إلى صدري وأحاصرهما بين يدي حتى لا تهربا، أطير فرحا حين تبادران بالقدوم نحوي وأسعد حين تطوفان بي وتهزان ذيلاهما أوحين أقترب منهما فتبدئان بالخرخرة.

 

من مصدر رعب إلى منبع حب ومصدر سعادة تحولتا، بعد أن أصبحتا جزءا من الأسرة ونشرتا البهجة في البيت وخلقتا فيه جوا مرحا، لم تجعلاني أتخلص من رهابي فحسب بل علمتاني شيئا من تحمل المسؤولية وغيرتا في أشياء سأظل ممتنة من أجلها؛ في الواقع قد غيرتا الكثير في إذ غيرتا اقتناعاتي وطريقة تفكري وسلوكي بعد ذلك؛ فهما لم تبدلا موقفي من القطط فحسب بل من حيوانات أخرى أيضا… في الواقع هما لم تغيرا نظرتي إلى الحيوانات، بل جعلتاني أخيرا أراها.

 

فبرؤيتي للقطتين تنامان في راحة وتتمختران مشيا في أرجاء البيت بسلام، أصبحت أدرك معنى الرعب الذي تعيشه حيوانات الشارع وهي تهرب مختبئة تحت السيارات وتقطع الشوارع مسرعة وتتوارى عن الأنظار وتستتر عن الناس، وفي كل مرة أراهما تعيشان في طمأنينة وتلجآن إلينا لنربت على رأسيهما أو نحملهما بين أدرعنا أستوعب فظاعة الترهيب الذي تتعرض له حيوانات الشارع التي لا تمثل لها اليد الآدمية غالبا إلا أداة للضرب والأذى، وفي كل مرة كنت أرى قطتينا تطلبان الطعام مرات عديدة في اليوم وتستلذان به وتفضلان أصنافا منه وتتمنعان عن أخرى، صرت أدرك ما تحرم منه حيوانات الشارع التي تموت جوعا وتبحث عما تملأ به بطنها دون أن يكون لها حق تشرط أو اختيار… في كل مرة أتفقد إناء الماء خوفا من أن يفرغ أتذكر حيوانات الشارع التي تموت عطشا خصوصا في الحر… في كل مرة أراهما تنعمان بشيء وأرى كيف ينعكس ذلك عليهما صرت أشفق على حيوانات الشارع التي تحرم منه، وصرت أخيرا، أنتبه إليها وأتأمل حجم الضرر الي تعانيه وأتأسف.

 

أتأسف لأنه ولو أني لم أكن أؤذي الحيوانات من قبل فإنني لم أكن أفعل شيئا تجاهها، فما انتبهت يوما إليها وما اقتربت منها وما قدمت لها طعاما ولا شرابا ظنا مني بأنها قادرة على تولي مصيرها والبحث عن لقمة عيشها، أتأسف لأني أدركت الآن بأن لها حقوق علي ومن واجبي الإحسان إليها وليس فقط الكف عن أذاها ومادامت ستعاني الحرمان والمرض ولو أن الناس جميعا كفوا عن أذاها في ظل غياب من يساعدها، خصوصا وأن الأمر لا يتطلب دوما إمكانات كثيرة.

 

أتأسف لأنني أنا الشارع، ووضع حيوانات الشارع ما هو إلا نتاج تصرفات الناس وانعكاس لأفكارهم، بما فيهم أولئك المفعمون بالرحمة، الذين يبذلون الجهد ويعطون المال لإنقاذ حيوانات الشارع ويوفرون لها المأوى والطعام والعلاج عند الحاجة، وأولئك الذين تجردوا من إنسانيتهم وعدت مقتنعة بأن الحيوانية لا تليق لوصفهم، يؤذون هذه الكائنات ويعتدون عليها ويدسون لها السموم في الطعام ويضربونها ويتسلون بتعذيبها أحيانا، ثم أيضا أولئك الذين لا يحسنون ولا يؤذون، أولئك الذين مشكلتهم فقط أنهم لا يرونها.

 

لهذا، لدي عرفان بجميل هاتين القطتين الرائعتين علي؛ بفضلهما أخيرا، أصبحت أرى القطط العمياء والعرجاء والهزيلة والمصابة بأمراض جلدية والمعذبة وأصبحت أرى الاستغاثة في عينيها والألم في مواءها، كما أصبحت أرى الكلاب الجائعة وتلك التي تختفي بعد أن يتم قتلها بالرصاص والتي تجول الشوارع وأرى الأطفال يستفزونها ويضربونها بالحجر والكبار يقسون عليها، أصبحت أرى الفراخ والطيور والحمامات التي تقص أجنحتها أو تربط بحبال أو يتسلى بها، وأصبحت أرى البهائم تحمل السلع أو تجرها مثقلة لاهثة وتضرب من طرف مالكيها، أصبحت أنظر لعيون هذه الكائنات اللطيفة وأرى القهر فيها، أصبحت أدرك أنها تحس وتشعر وتفرح وتحزن وتظهر الامتنان لمن أحسن إليها، أصبحت أدرك عظمة ديننا الذي حث على الرفق بالحيوانات وجعل مقابله أجرا وثوابا عظيما…

  

المهم في كل هذا ليس التحول من الفوبيا إلى "الحوبيا" كما أخبرتني أختي يوما… الأهم أنني أصبحت أرى كائنات كنت غافلة عنها، وأكثر من ذلك، أصبحت أرى حجم ما كان يفوتوني حين لم أكن أراها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.