شعار قسم مدونات

حوار في الظلام مع كفيف بصر!

blogs كفيف

دخلنا أنا وصديقاتي إلى ذلك المكان الغريب، وإذ برجل يقول لنا: "اتركوا كل أمتعتكم وجوالاتكم وساعاتكم هنا"، فعلنا ذلك بكل صمت، وأخذت كلُّ واحدةٍ منا عصاها، وبدأنا نمشي رويداً رويداً حتى وصلنا لنقطة انعدمت فيها الرؤية تماماً، ثم سمعنا رجلاً آخر يرحب بنا ويقول أهلاً وسهلاً بكم في عالمي الجميل، كان الظلام دامساً، وكان شعوري بأن عيناي مفتوحتان ولكن لا تستطيعا الرؤية كفيلاً بأن يشعرني بالاختناق، أخذت نفساً عميقاً وذكرت نفسي بأني أنا التي أردت خوض هذه التجربة منذ زمن ولن أتراجع عن ذلك.

 

تابع الرجل كلامه وقال: سنذهب اليوم في جولة ممتعة إلى مدينة اسطنبول وسنحظى بوقت رائع ولكن في ظلمة تامة!، بدأ يمشي ويتكلم حيث كان صوته الشيء الوحيد الذي يبعث على الطمأنينة، وبدأنا نتبع صوته حيث كانت يدي اليمنى تحرك العصا في كل الاتجاهات خشية الوقوع، ويدي اليسرى تمسك بقبعة معطف صديقتي خوفاً وقلقاً من البقاء وحيدة.

 

كان أملنا فقط في الأصوات التي كنا نسمعها وبتلك العصا التي كنا نمسكها، كانت سكينتنا تنبعث من صوت زقزقة العصافير وضوضاء السيارات وأصوات ضحكات الناس من حولنا، تابعنا السير وإذ بنا نتوجه لنصعد حافلة النقل العامة، صعدت وأنا أتلمس أين أريد الجلوس كالطفل الصغير الذي يبحث عن أمه، وكان ذلك الجزء الأصعب أن تبحث عن مقعد في عالم العتمة!، جلست أخيراً على مقعدي وإذ بالمرشد يقول: ها نحن نتوجه الآن إلى منطقة تقسيم، استمتعوا بالأجواء والطريق، وضعت رأسي على تلك العصا وأغمضت عيناي وسرحت بخيالي في عالم البصر وقلبي يعتصر من شدة الألم، بعد ذلك نزلنا من الحافلة وذهبنا لمحل الخضار والفواكه، حيث قال: نحن نتسوق من هذا المكان فاختاروا ما يحلو لكم، لم أستطع أن أمد يدي إلى مكان مجهول بلا أبعاد ولا ألوان ولا تفاصيل، ولكن تشبثت بصديقتي ومددت يدي ببطء شديد حتى لامستُ شيئاً، فكانت الفرحة حينما أدركت أن الشيء الذي بيدي أعرفه وأميزه إنها "تفاحة"!.

   

  

تابعنا السير نحو المجهول وهنا أدركنا وجود سفينة وكان يجب علينا صعودها في قلب هذا الظلام والاسوداد، جلسنا في مكان يترنح يمنة ويسرة مع أمواج البحر مستمعين لصوت النوارس التي هيجت قلوبنا المتعبة، كانت لحظات يصعب وصف ماهيتها، فهناك لن تشعر سوى أنك سمكة صغيرة تائهة في محيط عميق أو نجمة زائغة في سماء مظلمة ابتعدت عن قمرها فضلت الطريق، بعد ذلك اتجهنا نحو المقهى ودخلنا نبحث عمن يهدينا السبيل أو عمن يعطينا الدليل ولكن لا محال، تابعت المسير حتى لامست يداي سطح طاولة وإذ بنا نسمع صوت رجل آخر يبيع القهوة والشاي، طلبت منه الشاي وأنا مجبرة على فعل ذلك حيث لم تكن النفس ترغب أو حتى تفكر في الطعام والشراب، وهنا كانت المصيبة بطريقة الدفع وعد النقود وكيفية الشرب بإحكام دون سكب الكوب.

 

ينتابك الشعور بالعجز أحياناً في ذلك المكان ولكن لا مجال للتوقف فالجميع يمشي والحياة تسير ومن يتوقف لن يلتفت إليه التاريخ.  بعد ذلك انتهت الجولة وودعنا ذلك الرجل وبقي في الظلام، وخرجنا نحن باتجاه أشعة الضوء حيث كانت لأول وهلة مؤذية للعيون وذلك بعد استغراق ساعة كاملة في الظلام. خرجت وكأني هاربة من النار إلى الجنة، أي حياة هذه التي يعيشونها، وأي دنيا هذه التي يطيقونها بلا عينين، تذكرت هنا حديث رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام حين قال: إن الله عز وجل قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه" رواه البخاري. نرى بعيوننا ويرون بقلوبهم، نسرح بخيالنا نحو ما نراه من مشاهد حياة يومية ويسرحون بخيالهم نحو اللانهاية بلا حدود ولا حواجز.

 

كان ذلك المكان عبارة عن مؤسسة ريادة مجتمعية اسمها "حوار في الظلام"، حيث الهدف من تأسيسها هو جعل الناس يشعرون ويعيشون تجربة حياة كفيف البصر، حيث تدخل لمكان مجهول لم أستطع رؤيته من الداخل ولكن تخيلت بأنه عبارة عن صالة كبيرة مقسمة إلى أقسام مختلفة تجعلك تشعر حقيقة أنك في تلك الأماكن السابقة التي ذكرتها في الأعلى مع المؤثرات الصوتية العالية الجودة حيث يقودك مرشد من كفيفي البصر، والصدمة في ذلك أن كل من يعمل فيها هم من المكفوفين أي أن مصدر دخلهم من هذه المؤسسة والتي تجمع بين خدمة المجتمع والعمل الإنساني والأجمل من ذلك أنه في مقابل هذه المؤسسة توجد مؤسسة مشابهة لها ولكنها تختلف عن السابقة بأنها تجعلك تعيش تجربة الصم والبكم، وأيضاً كل من يعمل بها هم من الصم والبكم، وهنا يأتي دور رواد العمل المجتمعي في خدمة ونهضة مجتمعاتهم.

 

خرج الجميع وبقيت أنا وصديقتي ننتظر ذلك الرجل الذي كان معنا حيث لم نتمكن من رؤيته في الداخل حتى ظهر لنا رجلاً مسناً يمشي بلا بصر، ذهبنا إليه وتحدثنا معه وشكرناه على ما قام به معنا فسُعد جدا، وقال لنا: إن الحياة صعبة بعض الشيء بلا عينين ولكنها ليست مستحيلة!، ودعناه وعُدنا إلى النور وعاد هو إلى ديجور عينيه ونور بصيرته، دعوتُ الله أن يديم علينا نعمه التي لا تعد ولا تحصى وأن يكون معيناً لهم فالله ما أخذ من أحدٍ شيئاً إلا ليعطيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.