شعار قسم مدونات

لماذا نتظاهر بالبكاء على القضية؟!

BLOGS القدس

منذ طفولتي وأنا أعلم يقينًا باحتلال إسرائيل لفلسطين.. كيف لا وقد كنّا نجوب المدرسة متظاهرين وداعمين للقضية في كل اعتداء جديد يحدث.. وبفطرة عاطفيِّة سليمة كنّا نجمع من بعضنا التبرعات المتواضعة، وكنا نطلب من والدينا المال لأجل ذلك.. حتى أكثر مما كنّا نطلبه لأنفسنا.. لكن يومًا بعد يوم تلاشت كل هذه الأمور.
 
في شهر فبراير عام 2018 حضرت ندوة بعنوان "التبعات القانونية لقرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل" نظمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، لفتَ نظري وقتها الاستعراض التاريخي الذي قدمه أحد المحاضرين.. وكان استعراضا سعت فيه إسرائيل بشكل خبيثٍ يتلاعب بالقانون الدولي لاحتلال الأراضي الفلسطينية شبرًا بعد شبر.
 
فإسرائيل شرعت بالعمل تحت أعين الغرب من خلال هذه القوانين إلى السيطرة على الحيز المكاني عن طريق التوسع بإقامة مستوطنات إسرائيلية تفصل شرق القدس عن الضفة الغربية، وتمنع التواصل بين التجمعات العربية مع بعضها البعض. وفضلًا عن ذلك سعت إسرائيل عبر جمعيات يمينية لدعم التغلغل الاستيطاني في الأحياء والتجمعات الفلسطينية.

 
وهدفت أيضا إلى تغيير الميزان الديموغرافي من خلال سحب إقامة الفلسطينيين في القدس. وما سمعت كان أعمق وأدهى مما أتذكر. لكنني أذكر وقتها أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من السؤال الممزوج بكثير من القهر: لماذا لا نعرف نحن عن كل هذا؟! لمَ لا يتحدث أحد عن كل هذه الخطوات القديمة وأين الخطوات القانونية المضادة ثم أين إعلامنا؟؟ ألا يُفترض بِنَا أن نعلم ونُعلِّم غيرنا بما يحدث في قبلة المسلمين الأولى؟
    

ليست كما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية أنها وسيط محايد في حل القضية.. فحوادث التاريخ تكشف بشكل واضح كذب هذا الادعاء ولن يكون علينا أن نتفاجأ بخطوات ترامب هذه لنكتشف هذا الأمر

كنت مستغربا من جرأة (ترامب) وقت أن أعلن في 6 ديسمبر 2017 أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل المزعومة.. لكن بما سمعت في تلك الندوة زال عني ذلك الاستغراب تمامًا.. فما قام به هي نتيجة حتمية لكل تلك الخطوات الذكية التي اتبعتها إسرائيل.. ربما لم تكن ذكية حقيقةً لكن نحن من كنّا أغبياء أو أُريد لنا أن نُغيَّب عن ذلك.
 
فبعد السلام الدافئ باتفاقية (كامب ديفيد) الذي حدد ملامحها الرئيس الأمريكي (جيمس كارتر) صاحب المقولة المشهورة التي قالها أمام الكنيست الإسرائيلي: "لقد آمن وأظهر سبعة من رؤساء أمريكا، أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة ، وهي علاقة لا يمكن تقويضها، لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه". في 26 مارس 1979 أُتيحت الفرصة بشكل أكبر للصهاينة بأن يرتاحوا من عناء الحروب، ويتفرغوا للعمل بجد في كل شبر يستطيعون احتلاله.. وسط تغاضي كل الدول العربية عن ذلك عدا نداءات شجبٍ واستنكار معهودة.
 
فليست كما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية أنها وسيط محايد في حل القضية.. فحوادث التاريخ تكشف بشكل واضح كذب هذا الادعاء ولن يكون علينا أن نتفاجأ بخطوات ترامب هذه لنكتشف هذا الأمر، ولا لأن نرى "صفقة القرن" قد أُبرمت حتى نبكي على ليلى.. فليلى لن تقر لنا بذاكَ.

 
وماذا عن الوسيط الأمريكي؟ الواقع يقول أن الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية يرجع إلى الستة ملايين يهودي يشغلون مناصب مهمة في مؤسسات المال والأعمال والإعلام والبنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس، وهي جالية قليلة العدد، لكنها جيدة التنظيم، مثقفة في مجال السياسة الخارجية، وتملك من الثراء ما يكفي لأن تدفع ما يجب إذا لم تستجب. فلك أن تتخيل والولايات المتحدة الأمريكية لها الكلمة الأولى والأخيرة، ما الذي ستفعله؟ 

 

لن نكون مبالغين إن قلنا أنه لا يكاد يخلو رئيس أمريكي من تقديم الولاء لهم.. بل صرَّح بعضهم ذلك، فعلى سبيل المثال: أثناء حملة (رونالد ريغان) الانتخابية في واشنطن في 3أيلول 1980، ألقى ريغان خطابا قال فيه "إن إسرائيل ليست أمة فقط بل هي رمز، ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بُنيت على أساسها أمتنا".
   

علينا أن نبدأ بأنفسنا ونَعِيَ كل خطوة تم اتخاذها عبر التاريخ في سبيل تسوية القضية على حساب أرضنا ودمائنا ومعتقداتنا
علينا أن نبدأ بأنفسنا ونَعِيَ كل خطوة تم اتخاذها عبر التاريخ في سبيل تسوية القضية على حساب أرضنا ودمائنا ومعتقداتنا
   

وما قام به ترامب مؤخرًا من الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل ما هو إلا جزء من ذلك الدعم.. وخطة قديمة باتفاقات سياسية مع (حافظ الأسد) سابقًا.. ومع ابنه الغر الذي سمح بشكل علني هذه المرة للمضي قدمًا بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق؛ من خلال جرائمه التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء في حق شعبه، فكان لابد من مقابل حتى تكف أمريكا عن الدندنة بتلك الجرائم التي ارتكبها حفاظا على كرسيِّه اللعين.
لكن ماذا عن تعاطفنا وإيماننا بالقضية؟

 
ولَّى زمان المظاهرات المنددة كعادتها، وجاء زمن التظاهر بالحزن في حساباتنا الشخصية على قدر من الاستحياء، لئلَّا يتعرض أحد للعقوبة من قِبل سلطة ما.. فلم تعد الأنظمة تستحي من التطبيع العلني كما كانت قبل ذلك. لكنها تركت مساحة ضئيلة ومحددة من الديموقراطية يحرم تجاوز خطوطها والتي لا تقدِّم شيئا يُذكر.. لكنها قد تُؤخر قليلا الخطوات المتسارعة في التطبيع.. لكن ماذا إذا أغلقت أمريكا مثلا وسائل التواصل الاجتماعي.. كيف سنتظاهر بالبكاء فيها؟!
 
علينا أن نبدأ بأنفسنا ونَعِيَ كل خطوة تم اتخاذها عبر التاريخ في سبيل تسوية القضية على حساب أرضنا ودمائنا ومعتقداتنا.. وعلينا أن نزرع في عقول وقلوب الأجيال القادمة كل شبر من أرضنا كان قد سُلِّم للمغتصبين وسلمه الخائنون لهم.. حتى على الأقل إذا لم نستطع نحن أن نفعل شيئا تجاه كل ذلك.. فحتما سيأتي ذلك الجيل الذي سيحرر كل ما انتهك بالقوة والتخاذل المتتابع.. وسوف يأتي.
——————————————–
مصادر:
* بحث بعنوان "اليهود في أمريكا" حامد العلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.