شعار قسم مدونات

لماذا لا نزور الملاعب؟

blogs التعصب الرياضي

منذ زمن ليس بالبعيـد، تجاوزت كرة القدم حدّ الموهبة؛ والحقيقة أن ليس كرة القدم وحدها بل أغلب الرياضات –الجماعي منها والفردي-، تحولت الرياضات من حُضن الموهبة والهواية إلى براثِن الصِناعة، ذاك النوع من الصناعة الذي تطلُب رأس مال لاستمراره، إعلام يشحن الجمهور، يتلاعب بوِجدانـه، وتسويق قوي يروّج للكيان واللاعبين لرفع القيمة السوقية، وأموال تُصرف في مجالات أخرى بفعل التضخم. وضمن هذه المعمعة، وجد المشجع نفسه ضالّة من الممكن الاستثمار بها من قبل الأندية، يُراهَن على حضوره الذي يدُر الأموال على خزائن النادي، ويستخدمه الإعلام مادة غنية لمواضيعه، حتى أن الجمهور وجد نفسه ينجرِف لهذا الاحتقان، صانِعاً فضاءً تنافسياً لم يسبق لنا أن شاهدناه من قبل، فضاءٌ أكثر خطورة، مشحون.

  

يندفع الجمهور للمؤازرة من على المدرجات بهوس وهستيريا رهيبين، ينصهر الفرد مع الجماعة وتذوب شخصية الفرد فور انضمامه لمدرج التشجيع، يٌصبح التشجيع المتنفس الوحيد للأفراد، فضاء الاحتجاج الأمثل، يحكُمهم مُعجم جماهيري واحِد، يصنعون كُتلة قادرة على تغيير نتيجة مباراة، ولأول مرة، تصبح للجماهير سيكولوجيا أصيلة، تصير الأمور إلى مرحلة الشغف، حينها تصل الجماهير إلى مفترق طرق، إما أنهم يعكسون مثالاً جيداً راقياً على الأخلاق والإنسانية، أو افتعال ثورة جامحة يُشجٌّ رأس اللعبة بها لتخرج عن سياقها ونطاقها.
    

يعتقد الجمهور أو حتى اللاعبين أنهم بمسرحية معزولة عن الحياة الخارجية، يظنون أن قوانين الدولة والشرطة لا تسري داخل الملعب، وفي حالة الخسارة قد تشاهد جمهور ينقلب على فريقه

يبقى مفهوم التشجيع مفهوم جيّاش حضاري لأبعد الحدود، حتى تنخرط بها العصبية والعنصرية، ينقلب كل شيء رأساً على عقب، وينعدم الاحترام لتحل مكانها الغوغائية. إن الأمثلة على حضور الروح الرياضية الجماهيرية متوفرة، والحقيقة أنها مواقف إنسانية لا تنعدم، الحقيقة الأخرى أنها تكثر في الملاعب الأوروبية أكثر من الملاعب العربية، فالتركيز على صور العنف الرياضي لا تعكس غياب بعض حالات تواجد الروح الرياضية، إنما على فظاعةِ أحداثها التي تسببت لنا بجراح غائرة بقيت وستبقى طويلاً، ولبشاعة ما نشهده هنا في ملاعبنا الرياضية التي لا يتم الاعتناء بها ولا تُعامل كما لو أنها مسرح ثقافي مُعتبر.
  
في يومٍ ما كنت مُصاباً بالتعصب الكروي، التعصب الرياضي الأعمى على الإطلاق، الأكثر جموحاً، ذهبنا إلى الملاعب كلما سنحت الفرص، تعرفنا على أصدقاء الملاعب، وما عرفنا من أجواء الملاعب تلك إلا مزيداً من الألفاظ السيئة، وسُرعة فقد الأعصاب، إن قرار حكم باحتساب خطأ ضد فريقي، كفيل أن يخرُج مدرج كامل عن صمته، يبدأ الجمهور برمي المقذوفات، قوارير ماء، أحذية، موز، رأس خنزير. تُصبح النكتة الدارجة، إن أردت تطبيق ما تعرفه من عبارات سيئة عليك أن تذهب إلى الملعب وتشتم اللاعبين، يعتقد أغلبية الجماهير أن دخول الملعب هو مثابة دخول عالم افتراضي، يٌسمح بشتم اللاعبين، يُسمح بالتدخين، التشجيع بغوغائية، وتسييس الهتافات، وتكسير محتويات الملعب، وإعاقة حركة السير في الشوارع بالاحتفال، إزعاج الناس، حتى أصبح اعتداء الجماهير على الحكام واللاعبين ظاهرة.

   

يعتقد الجمهور أو حتى اللاعبين أنهم بمسرحية معزولة عن الحياة الخارجية، يظنون أن قوانين الدولة والشرطة لا تسري داخل الملعب، وفي حالة الخسارة قد تشاهد جمهور ينقلب على فريقه فيبدأ يزمجر على نفس اللاعب الذي سجّل هدفاً حاسماً في مباراةٍ ماضية، أو تحصل مواجهات مباشرة بين جمهور الفريقين، جماهير يجمعهم التعصب وقلة الوعي رغم كبر سنّهم. على هذه الجماهير أولاً أن تنخرط في صفوف بناء الوعي، وتقرأ في العلاقات الإنسانية، وفي مبادئ الاحترام قبل أن تنزل إلى الشارع فضلاً على أن يُسمح لها بالنزول إلى الملاعب والاحتكاك بالآخرين.

  
يقودنا هذا التمهيد إلى سؤال في غاية الأهمية: هل من الصواب الذهاب إلى الملاعب؟ والاحتكاك مع الجماهير؟ خصوصاً في تلك المباريات التي لا يُمكنك أن تكون مُحادياً بها، نوعية المباريات التي ترتبط بوجدان الإنسان، فريقك الوطني، فريقة المدينة، في مثل هذه المناسبات غالباً ما تخرج الأمور عن السيطرة، لا يقتصر التنافس فيها فوق الملعب، بل ينتقل إلى المدرجات وإلى خارج أسوار الملعب، مُسبباً فوضى، قتلى وجرحى وتخريب. تُصبح الملاعب المسرح الوحيد البارز في البلاد والأقل تكلفة على الجمهور كي تنشر ما تعلمته، في ظل غياب الحُريات الكافية ومسارح ثقافية أكثر واقعية وأكثر تهذيباً. الحقيقة أن ما يحصل في ملاعبنا لا يعكس قوة وحقيقة المستوى الفني لأغلب المباريات، بل على العكس، إن المستوى الفني متواضع والإمكانات محدودة، اذهب إلى كل دول الوطن العربي، سوف نتوافق على حقيقة أن زيادة المشاكل تعني بالضرورة ضعف المستوى الفني.

  
في بعض الأحيان، ينعدم الأمن حرفياً في الملاعب، قد تفقد حياتك في أي لحظة، عندما تصبح أرضية الملعب ساحة لتصفية الحسابات السياسية، المشاكل الديموغرافية، يٌصبح دم المشجع أو اللاعب مهدوراً بأي لحظة، وقفتٌ مشدوهاً أثناء بحثي عن الشغب في الملاعب، على حرب المائة ساعة بين السلفادور والهندوراس، تفاصيل القصة الآن لا تعدو ذات أهمية إلا أن ما يجدر ذكره في هذا السياق أن هناك أربعة ألاف قتيل، آلاف الجرحى ومئات الآلاف من المشردين، حرب سًيّرت لأجلها جيوش وطائرات ودبابات، بسبب مباراة كرة، وفي عالمنا العربي الجميع يتذكر ما حصل بين مصر والجزائر من مشاكل رياضية وقطع العلاقات بين البلدين وسحب السفراء.

     

إننا شعوب مشحونة بفعل الإعلام الرياضي المضلل، الذي يشحن الجمهور الرياضي قبل زجّه لمؤازرة الفرق بالملاعب
إننا شعوب مشحونة بفعل الإعلام الرياضي المضلل، الذي يشحن الجمهور الرياضي قبل زجّه لمؤازرة الفرق بالملاعب
     

وليس ببعيد عن تلك البُقعة، توفي الكاميروني ألبيرت إيبوسي لاعب شبيبة القبائل الجزائري بعدما تلقى ضربة على رأسه من حجر قذفه أحد الجماهير الغاضبة، والسؤال ليس كيف دخل الحجر إلى أرضية الملعب أو من قذف ذاك الشيء، السؤال الأكثر أهمية هو من يُعيد إيبوسي الآن؟، من يُعيد الثقة للجماهير الباحثة عن السعادة والفرح بالذهاب إلى الملاعب بعد الآن، كيف لنا أن نتصالح مع أنفسنا بعد أن نشاهد جماهير تقذف الموز على اللاعبين تشبيهاً بالقرود، أو العنصرية ضد اللاعبين السود أو المسلمين، ومع كثرة العنف، نصل إلى مرحلة أكثر خطورة وهي أن يصبح العنف الرياضي غطاء للتسبب بفوضى أكبر واغتيال مُنظم، وتحقيق غايات خارج إطار اللعبة كما حدث في كارثة بورسعيد التي ذهب إثرها أكثر من سبعين مشجع ومئات المصابين بعد تم الاعتداء عليهم بالضرب بآلات حادة وبسبب التدافع والاختناق وانعدام الإجراءات الأمنية المُصاحبة للمباراة.
  
كثير ما أسأل نفسي كيف للأمة العربية أن تحتمل اختلاف مشاربها وعقائدها وهي لا تحترم قرار حكم مباراة بشأن أمر صغير جداً، كيف لنا أن نسمح للعائلات بدخول الملاعب دون تحسين بيئة مساعدة؟ كيف لهمومنا الصغيرة أن تذوب في همومنا الكبيرة ونحن على خلاف دؤوب، الخلاف جيد في معايير الأمم، لكن أن يصل أي خلاف بسيط إلى اعتداء جسدي وسب الرب واحتقار الطرف الآخر، فهنا هزيمةٌ نكراء، الحقيقةُ أن الهزيمة تبدأ من هنا، لعبة كرة القدم وغيرها من الرياضات تعتبر وسائل تربوية لزيادة الوعي وإيصال صوت الروح الرياضية واحترام المُنافس، تستطيع الجماهير – لو ركزت قليلاً – أن تُسطر مثالاً جيداً للوعي وحُسن الأخلاق والعادات، بل أن تُحمّس القاعدين على زيارة الملاعب وتشجيع الناس على الالتحاق في المدرجات، إن لتلك المدرجات قدرة رهيبة على صُنع ثورات لا تقل أهمية عن تلك التي تجيء من المظاهرات، أنا هنا لا أدفع الجماهير إلى أي اتجاه بقدر ما أهيمُ بإيضاح أهمية تلك الجماهير وكمية الطاقة التي تملكها وحجم ما يُمكن أن تفعل.
  
إننا شعوب مشحونة بفعل الإعلام الرياضي المضلل، الذي يشحن الجمهور الرياضي قبل زجّه لمؤازرة الفرق بالملاعب، الأمر ليس حصراً على الرياضة فالشحن الإعلامي يُلامس أغلب جوانب حياتنا، صانعاً بروباغندا إعلامية وديموغاجية يُقاد على أثرها الأفراد نحو التطرف والإرهاب، لا أدّعي أن هدف الإعلام الرياضي هو القتل والعنف بحد ذاته، هدف الإعلام الحقيقي هو التكسّب من وراء جهل الجماهير، وتحفيزها لتبقى في إطار الجهل لأنه يقودها بالضرورة إلى الهستيريا والتراجيديا، الهستيريا والتراجيديا.. تذكروا دائماً هذه المصطلحات، هدف الإعلام رِبحي لا أكثر، أما الجماهير المُغيّبة الجاهلة فسوف تتكفل بما تعجز عنه آلة الدعاية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.