شعار قسم مدونات

لماذا نصوت ضد مصلحتنا الخاصة؟

blogs - ديمقراطية

قد يطيح شعب بدكتاتور عسكري لينصب مكانه دكتاتورا آخر، وقد ينتخب الفقير المعدم الذي لا يجد طعاما يملئ بطنه نائبا ثريا يسعى لتمرير قانون يعفي أمثاله من الضريبة على الأرباح، وقد يصوت المتدين المسلم لرئيس علماني يدعو للمساواة في الميراث بين المرأة والرجل. وفي بعض الدول الأخرى الأكثر ديمقراطية، يمكن أن يصوت المهاجر لمرشح رئاسي يروج لسياسات معادية للمهاجربن أنفسهم. من الواضح أن بعض الأشخاص يمكن أن يصوتوا بما يخالف مصالحهم الشخصية، وأحيانا بما يتعارض معها تماما. لكن ما الذي قد يدفع البعض منا للتصويت ضد مصلحته الشخصية؟ 

إن البشر مستعدون غالبا لمعاقبة الآخرين كلما وجدوا أنفسهم في وضعية غير عادلة، حتى لو كانت معاقبة الآخرين يعني بالضرورة معاقبة أنفسهم أيضا. إن الرغبة في معاقبة الآخرين تتحكم غالبا في تحركاتنا وقراراتنا، ليس فقط في السياسية، لكن أيضا في قرارات اليومية البسيطة. ولكي نفهم أكثر كيفية تأثير الرغبة في الانتقام على قراراتنا دعونا نلقي نظرة على لعبة الإنذار. لنفترض أننا قدمنا مبلغا من المال لزيد، وطلبنا منه أن يتقاسم المبلغ مع عمر، دون أن نحدد قيمة المبلغ الذي يحتفظ به لنفسه، لكننا وضعنا شرطا واحدا: إذا لم يقبل عمر بالمبلغ المقترح فلن يحصل أي منهما على المال. في الحقيقة، إن هذه التجربة التي تعرف بلعبة الإلتيماتوم لدى خبراء علم النفس الاقتصادي، كانت موضوع دراسة مطولة، وقد أثبتت التجربة أن معظم الأشخاص الذين بقترح عليهم الطرف الأول نسبة أقل من 30 بالمئة من المبلغ، يرفضون العرض. إنهم ببساطة يفصلون حرمان أنفسهم والآخرين من الحصول على المال، لمجرد أن القسمة لم تكن عادلة. 

إذا كانت السلطة سيئة، فإن الشعوب غالبا على استعداد للتصويت ضد المنظومة السياسية القائمة بغض النظر عم إذا كان البديل خيارا أفضل أو أسوأ. وهو ما حدث تماما في تونس سنة 2011، عندما أزاح الشعب نظام بن علي ثم جاء بالنهضة للسلطة، أو عندما أزاح بها لاحقا ليضع "نداء تونس" مكانها سنة 2014. وفي الحقيقة، لا يمكن للقياس أن يتسع أكثر في ليشمل مقاربات مماثلة من مجتمعاتنا العربية حول تأثير الرغبة في معاقبة الطرف الآخر على قراراتنا اختيار الحاكم، لأن "اللاعب العربي" مسلوب الإرادة غالبا، ولا يمتلك حتى حرية الاختيار بين ما هو سيئ وما هو أسوأ. إن أغلب الحكام الذين يتحكمون في مصائر الشعوب العربية إما ملوك توارثوا مصائر "اللاعب العربي" أبا عن جد، أو عسكريون انقلبوا على "قواعد اللعبة" لأن مخرجاتها لم تعجبهم. 
  

في ظل الأنظمة العسكرية التي لا يمتلك فيها المواطن العربي حرية الاختيار، فإن الخوف من العقاب يصبح المحرك الحقيقي لقرارات الشعوب وانفعالاتها

إن الأمثلة التي يمكن أن تساعدنا على فهم المحركات التي تؤثر في قرارات الشعوب العربية أو تدفعها للتصويت ضد مصلحتها الخاصة لا زالت محدودة. وحتى بالنسبة للنموذج التونسي الذي يعتبر الأكثر نضجا في فهم المؤثرات التي تتحكم في قرارات الشعوب، فإنه لا زال يعاني من بعض النقائص التي هي غالبا نتيجة لحداثة التجربة الديمقراطية والتجاذبات التي لا زالت تعيشها البلاد بين المنظومة القديمة والمسار الديمقراطي. وهو يواجه أيضا، أي النموذج التونسي، تحديا جديدا لاختبار قد تساعدنا أكثر على فهم هذه المحركات مع اقتراب الرهان الديمقراطي القادم خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في شهر أكتوبر 2019. 

إن لعبة الإلتيماتوم ليست إلا تجسيدا واضحا لمدى تأثير الرغبة في معاقبة الآخر على قراراتنا الفردية والجماعية. وهي لا تقتصر في ذلك على أفراد دون سواهم أو شعوب دون أخرى، فهي محركات إنسانية بالدرجة الأولى، وحيوانية بدرجة ثانية. وقد أجريت هذه التجربة على مجموعات من شعوب مختلفة طيلة 40 سنة، وحتى على القردة، لكن طبيعة ومدى تأثيرها كانت تختلف من شعب لآخر، بناء على القيم الجماعية التي تتبناها تلك المجموعة والظروف الاقتصادية لتلك الشعوب، ومفهوم المصلحة في حد ذاته. ولو أردنا قياس تجربة الالتيماتوم على بعض الشعوب العربية الأخرى، فإننا قد نجد مؤثرات مختلفة. ففي ظل الأنظمة العسكرية التي لا يمتلك فيها المواطن العربي حرية الاختيار، فإن الخوف من العقاب يصبح المحرك الحقيقي لقرارات الشعوب وانفعالاتها. 

إن مفهوم المصلحة واضح داخل الإدراك الجماعي للشعوب العربية والرغبة في تحقيق العدالة راسخة ضمن منظومتها القيمية، لكن سلطة الخوف التي تفرضها القوى المضادة ودور الإعلام في بث ثقافة اليأس وتكريس الإرادة السلبية في مواجهة المنظومة غير العادلة تكرس جميعها خوفا من العقاب، تتحول مع مرور الوقت إلى تسليم مؤقت بأن قدرة الظلم على فرض نفسه تجعل منه النظام السليم، ثم ما يلبث أن ينهار هذا النظام مع انهيار شروط قوته، وهو أمر قادم لا محالة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.