شعار قسم مدونات

جدتي.. اليدُ الحانية التي قادتني إلى عالَم الكتب!

blogs كتب

في الحياة، كثيرةٌ هي الأحلام التي نُخطط لها طويلًا ولم نهتدِ إلى سبل تحقيقها، نطرق أبوابها مرارًا فتصدها في وجوهنا، وأحلام أخرى لم تكن تخطر لنا ببال، فتأتي رياح الصدف فتدفعنا بكامل وعينا إليها دفعًا، وتُغيّر وِجهتنا واهتماماتنا غير التي كنا متوجهين أو تواقين إليها، هذا ما حدث تحديدًا في علاقتي مع الكتب، لم أكن من أولئك المحظوظين الذين وُلدوا وفي بيوتهم مكتبة ثرية بالكتب، ولا في فمهم ملعقة من ذهب، كل ما حدث حدث بالصدفة أو لحكمةٍ خفية أجهلها، هكذا، شاءت الأقدار أن تأتي إلى مدرستنا الابتدائية مُعلمةٌ قادمة من مدينة أخرى، من مدينة بعيدة جاءت بها رياح التعيين، لتُطبع شخصيتي للأبد وتترك بصمات واضحة في الطفل الذي كنتُه.

الطفلُ الذي كنتُه، لم يكن يشعر بحاجة ماسّة للعب أو لمُشاهدة المسلسلات الكرتونية، بقدر حاجته لمُتابعة نشرات الأخبار أو مشاهدة برامج القنوات الوثائقية، كان يستهويه الصوت والأسلوب، كانت تسحره الكلمة، أكثر من تمريرات الكابتن ماجد. قد يبدو هذا غريبًا، لكن هكذا وجدتُ نفسي، أميل لهدوءٍ لم أختره، وأجفل ربما من حياة طفولية لم أنل نصيبي منها. لم أكن أملك دراجات هوائية، كشأن معظم أترابي، لكن كانت لديّ جدة حكّاءة بارعة، وكانت حكاياها تمدني بجناحين ليُحلّق خيالي الطفولي عند كل ليل، كانت تكفيني حكاية لأنام نومًا هانئا. غير أنها لم تكن تهتم بدراستي كثيرًا، كانتْ تريد لي أن أكون تاجرًا أو حِرفيا بسيطا.

صرت أدرك جيدًا أن تلك اليد الحانية التي امتدت بمحبة كبيرة إليّ وأنا طفل وقادتني عن طواعية إلى عالم الأدب الذي لا ينضب، دلتني بذكاءٍ على مفتاح سر من أسرار الحياة الذي أزاح عني الكثير من الأبواب الموصدة

كانتْ ترى أن الكُتب خُلقتْ لأبناء الأغنياء، أما أبناء الفقراء فيجب عليهم أن يتمدرسوا ليتعلموا الأرقام والحساب لا أكثر.. غير أنها كانتْ خاطئة وهي غير مُلامة على ذلك، لأنها سيّدة مُسنة تخاف على أحفادها من مخالب الفقر، التقنية والحساب قد يعطيا للإنسان المادة لكن من يعطي لإنسان إنسانيته، من يعطيه معنًى وشعور، ثم إن الكُتب أيضا تغني وتسمن الأرصدة المعرفية، وتُقيم أود الروح. أبناء الفقراء لا يحلمون بأكثر من كتاب، وما ينبغي لهم، لولا أبناء الفقراء لضاع العلم، لولا أبناء الفقراء لضاع الأدب ولضاعت حتى الحكاية، لأن المترفين لا يملكون الوقت من الأصل حتى يهدروه في رواية حكايات لا طائل منها ولا ربح. الجاحظ، برنارد شو، دوستويفسكي، طه حسين، محمد شكري، أمل دنقل.. هؤلاء أدباء عاشوا ظروف حياتية قاسية وخبروا جيدًا ضنك العيش، لكنهم ظلوا مشهورين بثراء إبداعاتهم وحكاياهم.

نعم، في طفولتي كانتْ ثمة جدة، كما كانت ثمة مُعلمة، زرعت بداخلي رغبات أخرى وطبعتْ شخصيتي بطباعٍ جعلتني مصرا على مقاومة كل شيء، أربكتني الاختيارات ولم أعرف أي طريقٍ سأسلك؛ طريق جدتي المحفوف بالتَخوُّف أم طريق معلمتي المُجلل بالمَعنى والسكينة. لكن صوت المعلمة كان أحلى وأقرب إلى مسامعي، كانتْ ترى في صمتي وفي  إطراقاتي الطويلة، تفرُّدًا على أترابي، فَطنتْ مُبكرًا إلى شغفي بدروسِ الإنشاء وبالحكاية، فأغدقت عليّ بالقصص ثم بالروايات، كانت تعطيني قصة أو رواية فتطلب مني قراءتها ثم كتابة تلخيص لها. وهكذا أصبحت أجد في القصص ملاذي الوحيد الذي أهرب إليه من طفولة مربكة، حينها لم أكن أعرف ماهية الأدب، ولا ماهية القراءة، بل كنتُ أحسب الأمر مجرد مفاضلة أو مكافأة منها على تحصيلي الدراسي.

كانت بداياتي الأولى مع نصوص الروائي المغربي عبد الكريم غلاب، ففي المستوى الخامس ابتدائي قرأت له رواية "لمعلم علي"، هذه الرواية التي حصلتُ عليها من يدي أستاذتي أثرت فيّ كثيرًا، وبكيت بحزن طفولي مع بطلها الطفل كلما بكى، ثم بعض من أعمال طه حسين ونجيب محفوظ. ومنذ ذلك الحين وأنا متحيّزٌ كثيرا وميّال للروايات، ربما لأن الرواية هي الصنف الذي يتسع مجالها ليشمل الشعر والفكر زيادة على متعة الحكاية، وصارت تعجبني بصفة خاصة الأعمال التي أشعر فيها أن الكاتب يتكلم عن أناه، يكلمني مباشرة وتلتبس لي حياته بحياة بطله، أفضل المنجزات الأدبية -ولست أدري لما- التي تنبع من أوجاع الكاتب وأفراحه، من تجاربه الحياتية، من محيطه وما يحيط به. وعند التحاقي بالجامعة، كانت الساحة الجامعية مكتظة بباعة الكتب المستعملة، وبأثمان مناسبة للطلبة، حينها انفتحت شهيتي على الفلسفة وكتب علم النفس، وباقي العلوم. أما الشعر فلا زلتُ أميل إلى سماعه أكثر من قراءته.

الآن، صرت أدرك جيدًا أن تلك اليد الحانية التي امتدت بمحبة كبيرة إليّ وأنا طفل وقادتني عن طواعية إلى عالم الأدب الذي لا ينضب، دلتني بذكاءٍ على مفتاح سر من أسرار الحياة الذي أزاح عني الكثير من الأبواب الموصدة، كل كتاب تسلمتُه من تلك اليد الرقيقة المعطاء كان بمتابة النور الذي يبدّد عتمة الدروب، مرت سنوات كثيرة، لكن ذلك الطبع الذي طبعتني عليه أستاذتي، أصبح الآن أسلوب حياة، فمنذ صباي وإلى الآن، لا زال الكتاب رفيقي ومؤنسي حيثما رحلت، مؤنس أستعذب ثرثرته، وأثق فيه، كل هذا لم أختره أنا لوحدي بل ساهمتْ فيه أستاذتي، على الأقل هي من اختارت لي شيئا أتقنه حتى أبرر كل ما فشلتُ فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.