شعار قسم مدونات

تلاندسيا.. رواية تحكي معاناة المهاجر الإفريقي!

blogs تيلاندسيا

إلى كل من يحمل حلما على كتفيه، حلم بالهروب من جحيم الفقر والقهر إلى نعيم إسبانيا، حيث الرخاء والرفاهية، إلى الإلدورادو، هذه الكلمة التي تعني الذهب لتصبح بعدها مثالا لكل مكان يمكن فيه اكتساب الثروة السريعة، هكذا استهلت سلمى الغزاوي روايتها "تلاندسيا" في شكل إهداء لأبطال الرواية ولمن له أي حلم ينتظر أن يتحقق، ينتظر أن يدخل حيز الوجود ويَسكن طموحاتنا اللاهبة، ويُرضي أفكارنا التي تظل عالقة بين سحر التمني وألم الواقع المرير، ألم جعل مامادو المالي يرحل من حروب بلاده وتطرف بعض الجماعات الإرهابية التي تكره الحياة وتعشق الموت والعنف، عبَر خلالها محطات من المعاناة والتحدي حتى بلغ المغرب، ليبدأ قصة أخرى ورواية جديدة تحكي الكاتبة فصولها في أسلوب ماتع جذاب، تصف خلالها مدينة فاس الجميلة بمآثرها المعروفة والمشهورة (المدينة القديمة، ضريح مولاي إدريس، ساحة أبي الجنود أو ساحة بوجلود في اللهجة العامية)، رفقة صديقه عبدول.

 

حاول مامادو أن يبحث عن مورد لرزقه، يضمن له العيش الكريم، وفي بعض الأحيان يبحث فقط عن لقمة عيش تسد رمقه وتطفئ جوعه وعطشه، اشتغل كَراوي حكايات في ساحة أبي الجنود مع صديقه عبدول الذي تكلف بجمع النقود من المتفرجين الحاضرين، نظرا لأن عرَجه لا يسمح له بالحركة بشكل سلس، ففضَّل أن يتكلف بتأمين المال فيما سيروي مامادو قصصه وحكاياته التي لا تنتهي، وهي القصص ذاتها التي عاشها في رحلته المحفوفة بالمخاطر من مالي إلى المغرب، كادت تودي بحياته في مواقف كثيرة وخطِرة، فرحوا لوهلة أنهم عثروا على مصدر لرزقهم، لكن فرحتهم سرعان ما ستتبدد على يد أحد أعوان السلطة وهو ينتزع منهم كل ما جنوه طيلة ذلك اليوم ويطردهم شر طرد، سلطت الغزاوي الضوء من خلال هذه التجارب على العنصرية التي يعيشها الأفارقة عموما في المغرب، وما تحمله من مصطلحات قدحية تتنوع بتنوع العقليات الفجة في هذا البلد.

تلاندسيا، نبات يتميز بأوراق خشنة قادرة على استخلاص الرطوبة من الهواء، تُزهر في الصيف على عنقود زهري بلون أزرق جذاب وزهرتها ثلاثية البتلات

قسّمت الكاتبة روايتها إلى ثلاثة فصول مختلفة، فصل يحكي قصة الاستقرار بفاس وما واكبه من معاناة وصراعات مع ناسها تُوجت بالرحيل إلى طنجة، ليبدأ الفصل الثاني بطنجة وكانت الحياة أفضل حالاً، إلى حد ما، من سابقتها بالمدينة العلمية، ليأتي الفصل الأخير كلوحة معبرة امتزجت فيها الأحزان بالأفراح، فقدُ الأحبة يقابله بداية حياة جديدة تغيرت فيها أفكار أبطال الرواية بخصوص الهدف الذي جعلهم يرحلون من بلادهم، كما استهلت الكاتبة كل فصل من الفصول المذكورة ببيت شعري من قصيدة "المنفرجة" الذائعة الصيت لابن النحوي المتوفى سنة 513 هـ، كل بيت يصف الحالة التي يعيشها أبطال الرواية في ذاك الفصل، إذ افتتحت الفصل الأول بهذا البيت: "وسحاب الخير له مطر.. فإذا جاء الإبّان تجي"، وهي دعوة إلى الصبر في زمن الشدائد، لأنها باقية ما شاء الله لها أن تبقى وستزول في إبانها ووقتها المناسبين، تماما كالسحاب الذي لا يأتي بالمطر إلا في الوقت المقدر له، وارتباطا بروايتنا فإنها تعكس ما سيعيشه مامادو و أصدقاؤه من معاناة، وما يلزمهم إلا التمسك بالصبر والاحتساب حتى يأتي وقت الفرج والانفراج، وفي مستهل الفصل الثاني تهدي لنا الروائية بيتا آخر من نفس القصيدة: "فلربتما فاض المحيا..ببحور الموج من اللجج"، إذ هي دعوة للتشبث بالأمل، لربما ينقشع ضباب الألم والقهر، وكانت البداية بالسفر إلى طنجة لتتغير حياتهم نسبيا إلى الأفضل كما أشرنا سالفا، وفي الفصل الأخير فضلت الكاتبة أن تجود علينا بهذا البيت الجميل: "فإذا ضاق بك الذرع فقل.. اشتدي أزمة تنفرجي"، وهي إشارة إلى أن الأزمة ستنفرج والأفراح ستهل على أولئك المعذبين في الأرض.

تلاندسيا، نبات يتميز بأوراق خشنة قادرة على استخلاص الرطوبة من الهواء، تُزهر في الصيف على عنقود زهري بلون أزرق جذاب وزهرتها ثلاثية البتلات، وينمو النبات ليصل إلى حوالي 20 سم، كما يحتاج للعيش إلى أصيص صغير جدا يصل قطره إلى 10 سم، وتعتبر تلاندسيا من النباتات المُحبة جدا للرطوبة، لذلك يفضل رش أوراقها بالرذاذ بشكل مستمر، ولم يكن اختيار الكاتبة لهذا الاسم عنوانا لروايتها اعتباطيا، إنما له دلالات عميقة لمن قرأ الرواية كاملة واستشعر معانيها، فالأوراق الخشنة دلالة على المعاناة التي طبعت رحلة المهاجرين الشاقة بما حفتها من مخاطر جمة، أما الرطوبة التي تحتاجها النبتة فهي كناية على البحر الذي يعد هدفاً مؤقتا لأبطال الرواية قبل العبور إلى أوروبا، فبلوغ البحر يعني اقتراب حلم الانتقال إلى الضفة الأخرى، ثم إن نبتة تلاندسيا تحب الضوء الساطع، تماما كضوء أوروبا الذي ينتظره المهاجرون إليه فارين من ظلام إفريقيا المليء بالاستبداد والطغيان.

إن رواية "تلاندسيا" لسلمى الغزاوي لا تعد الأولى لها، فقد ألفت روايتي "ذاكرة قاتل" و"أوركيديا سوداء" والمجموعة القصصية "مقامات مخملية"، كما قامت أيضا بترجمة رواية لفيكتور هيجو "آخر يوم لمحكوم بالإعدام" للغة العربية، وقد استنفذت، بالمناسبة، جميع نسخ طبعتها الأولى بشكل قياسي، وتعد "تلاندسيا" لفتة طيبة في وجه أفارقة جنوب الصحراء الذين يعانون الويلات للوصول إلى جنة أوروبا، ويموت الكثير منهم في سبيل تحقيق هذا الحلم، جسدتها من خلال شخصيات (مامادو، عبدول، جورج، أماديا،..)، وكما أن العنصرية التي تعرض لها مامادو ورفاقه تركت في أنفسهم جرحا عميقا، لم يمحُه إلّا طيبوبة مغاربة آخرين أكدوا على أن التخلف مرتبط بقلة قليلة تفتقد لأدنى قيم الإنسانية والتضامن، فهذه تلايتماس مغربية من جبال الريف الشامخة، تقطن طنجة، لها الأثر والفضل الكبيرين على حياة مامادو وعبدول، امرأة تجسد فيها كل معاني الحب، تحضن بذراعها كل مضطهَد، وتفتح بابها لكل مهمَّش أقصته دروب الحياة القاسية، فجعلت من مطعمها مكانا للعمل لهؤلاء المطرودين من رحمة المجتمع، حيث وجد مامادو استقراره النسبي في طنجة، قبل أن يشهد على فقد الأحبة واحدا تلو الآخر، فأماديا ماتت غرقا في قوارب الموت المتوجهة نحو إسبانيا، وجورج تعمّد اقتحام حدود سبتة ليسقط برصاصات الجنود الإسبان جثة هامدة، كل ما حدث وما راكمه مامادو في تجربته السريالية جعلته يفكر جليا في التخلي عن حلم الأندلس، وساعدته تلايتماس في إنشاء مشروع مطعم بموطنه الأصلي بتمبكتو بمالي.

عالجت الكاتبة قيمة الحب التي تعذب بناره الكثير، الحب الذي دمر نورس صديق مامادو، الحب الذي تجرعه مامادو نفسه من أقداح مختلفة، لا يكاد يستمتع بكأس حتى يتكسر على جدران الخيبة، وكانت أماديا آخر الكؤوس التي فقدها، حيث ابتلعتها أمواج البحر المتوسط الهائجة، أماديا التي كان يصفها مامادو بالساحرة، في حين كانت تسمي نفسها بائعة الأمل، لم تجد أملا ينتشلها من هدير البحر الذي التهم أغلب من غاصوا فيه من أبناء المحرومين من دول العالم الثالث، إن الحب يبقى قيمة لا تزال مفقودة في مجتمعنا، المجتمع الذي بنى كل أسسه على الماديات والشكليات، كما تطرقت الكاتبة أيضا لقيمة الإنسانية كرمز كوني لا يزال أمامنا أشواط كثير للتشبع بحقيقته المُغيبة عند الكثير، الإنسانية التي تجدها على طرف كل لسان دون أن تستشعر أثرها في واقعنا الموبوء، كما عالجت أيضا قيمة التسامح الديني، حيث تجلت في علاقة جورج المسيحي بمامادو والآخرين المسلمين، وكان جورج يصوم معهم بعض أيام رمضان، في إشارة إلى أن الناس يظلون إخوة لا يفرق بينهم إلا التعصب الطائفي الذي اكتوى بناره الآلاف ومات بسببه المئات في بلدان مختلفة. 

ما راقني في الرواية وأثار انتباهي هو افتتاحها بحلم لمامادو وهو يقترب من الفردوس المفقود (أوروبا)، وفي أواخر الرواية أعادت الكاتبة مامادو إلى دوامة حلم آخر، حلم يؤذنه بالتخلي عن فكرة العبور إلى إسبانيا، كأن سلمى الغزاوي بخيالها الفذ وقلمها المثير، تريد أن تخبرنا بأن واقعنا محاصر بأحلام من هنا وهناك لا تدعه يغادر حدوده المرسومة سلفا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.