شعار قسم مدونات

أن تكون مجنون المرتبة الأولى

مدونات - النجاح

عادة نحن البشر بتركيبتنا النفسية نحمل في جعبتنا الكثير من الأهداف والأحلام، نسعى لتحقيق بعضها ونؤجل الباقي للفرص القادمة، نتعب على هدف ولا نرتاح حتى نحققه أو نصل لآخر سلم منه، نأخد نفسا عميقا ونكمل للخطوة الأخيرة، خطوة الوصول، خطوة النجاح، خطوة البحث عن اللحظة التاريخية التي طالما ابتغيناها.

تخيل أنك اقتربت من الوصول لهدفك وبقي لك نفس لتحط رحالك وترتاح وتعاود الانطلاق من جديد، لكنك أضعت الطريق فجأة، بسبب عدم تمييزك بين الطمع والطموح! لأنك لم تكن مسلحا بما فيه الكفاية  بالمعنى الحقيقي للطموح، ولم تدرب نفسك على القناعة بتفاصيل النجاح مهما كانت بسيطة أو صغيرة، وتناسيت المجهود الذي بذلته محاولا الوصول ولم تعتبره نجاحا يستحق منك الثناء، تأكد في هذه الحالة  عندما لن تفرح لنجاح صغير في حياتك أن نفسك تميل للطمع وجائعة جدا للنجاح ولن تشبعها مرافقاته، جنونك وهوسك بهذا الأخير سلب منك السعادة والقناعة، وحتى عندما وصلت لهدفك المنشود  لم تفرح فرحة طفل فقير بلعبة جديدة، بل رأيته نجاحا عاديا كما يرى الطفل الغني لعبة جديدة لا تحرك فيه شيئا، بل ينظر للعب غيره.

لماذا هذه المقدمة الفلسفية! لأنني ببساطة أفضل دائما أن أصيغ تدويناتي من الواقع والمواقف التي أراها وأعايشها، أجدني أستعيد شغفي وإلهامي بالكتابة من التأثير الذي تتركه بداخلي مشاهد الحياة اليومية ولا أتمكن من نسيان تلك التي اخترقت مخيلتي، ولا ارتاح حتى أحولها لسطور لعلني أفرغ رأسي قليلا من ثقله فتحمله عني الكلمات ولوحة المفاتيح.

 

هناك فرق شاسع جدا بين الطموح والطمع، فطموحنا للوصول لهدف ما لا يعني أبدا أن ندوس على أخلاقنا ونتخطى كل الحدود والقوانين الإنسانية للوصول إلى ذلك الهدف

صدمت بسبب موقف أحدهم في حفل نظمته إحدى الجهات المختصة في الثقافة والإعلام، حيث يتم توزيع الجوائز على المتأهلين في مسابقة الصحافة بمختلف أنواعها، فيتم اختيار ثلاث مرشحين من كل فئة للصعود إلى المنصة بعدها يتم الكشف عن اسم الفائز بالمرتبة الأولى، كانت القاعة مليئة بشخصيات الإعلام بمختلف مؤسسات، بالإضافة للشغوفين بهذا المجال، وكنت أيضا من بين الحضور، وتفاجئت كما تفاجئ الجميع بردة فعل أحد المترشحين الثلاث، إذ بعد صعوده المنصة امتنع عن الوقوف أمام زملائه الاثنين ورفض طلب منشط الحفل وفضل الوقوف لوحده، وقفته كانت بهلوانية لا تحمل من الاحترام والرقي شيئا، وضع يديه في جيوب بذلته الرسمية ورفع رأسه وظل يوزع نظراته المشحونة بالأنانية، وضحكته أنذاك التي كانت مليئة بالسخرية والاستهزاء أيضا، الكل خمن في تلك اللحظة أنه خاسر ولن يفوز بالمرتبة الأولى، ربما قد تم  تسريب إسم الفائز من قبل صعوده المنصة ف أصابه سيف النرجسية الحاد اللعين المترجم في تلك التصرفات التي سلبت منه التتويج، فحتى عندما تم النطق باسم الفائز لم يصفق  له ولم يفرح بل ازدادت عيونه احمرارا وارتباكا، وأخرج يده من جيوبه ونزل من المنصة يلوح بيده يمينا وشمالا.

في بداية صعوده المنصة كان متوجا وناجحا والكل صفق له يكفي أنه فاز باختياره من بين أحسن  ثلاث  أعمال صحفية من أصل الآلاف من المشاركات، لكنه ألقى بنفسه في حضن التكبر والكبر والضعف والغيرة، رفض تقاسم لحظة النجاح مع زملائه وكان طامعا وليس طامحا للمرتبة الأولى، عدم تمييزه بين الطمع والطموح جعله يفقد السيطرة على الموقف ونسي أنه يقف أمام شخصيات كل منها يمثل مؤسسة إعلامية كبيرة، بل ونسي أنه قد خلع عنه بذلة  النجاح وارتدى بذلة رسمية في الخسارة والفشل، مؤكد أنه سيلقي اللوم على غيره وسينسب خسارته لعامل ما خارج تماما عن إطار المنافسة فقط ليشفع لنفسه فعلته الحاملة لكل معاني الطمع والسخافة.

 
هناك فرق شاسع جدا بين الطموح والطمع، فطموحنا للوصول لهدف ما لا يعني أبدا أن ندوس على أخلاقنا ونتخطى كل الحدود والقوانين الإنسانية للوصول إلى ذلك الهدف الذي رسمته مخيلاتنا وأن نخسر ماء الوجه من أجله، حيث  يبقى الطموح صفة إنسانية تحمل كل معاني الاجتهاد، المسؤولية، وتقبل الفشل والاقتناع أننا سننجح في المرة القادمة، فلا يكفي أن نمسح فشلنا أو خساراتنا  في الآخرين  بل علينا أن نستيقظ لتجاوز ذلك باكرا حتى لو عاندتنا أنفسنا وهمست لنا بأنانية علينا أن لا نسمع لها، علينا أن نثابر ونعمل بجهد أكبر، فالحياة تطلب منا المزيد من العناد حتى لا نستسلم لمقالبها، فالنجاح الحقيقي لا يعني المراتب الأولى، علينا أن نقبل بالمرتبة الخامسة والثالثة والثانية ونعيشها بصدر رحب  حتى نستشعر حلاوة وطعم المرتبة الأولى، ما دمت إنسانا طامحا، تزود بالروح الرياضية، ولا تظن أن نجاح غيرك فشل  لك، ولا تكن مجنون المراتب الأولى والنقاط الأولى والكراسي الأولى  حتى لا يصفعك الفشل فجأة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.