شعار قسم مدونات

صناعة الفشل.. لماذا نحترف الموت ولا نعيش الحياة؟

blogs تفكير تأمل

يقول الإمام حسن البنا: "صناعة الموت: أجل صناعة الموت، فالموت صناعة من الصناعات. من الناس من يُحسنها فيتعرف كيف يموت الموت الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحاً أعظم من كل ما يتصور الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم ينقص من عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يوماً واحداً، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدده الله".

إن الله خلقنا لعمارة الأرض، وكتب لنا الحياة عليها وجعلها نعمة منه تستحق الشكر، وكان صلى الله عليه وسلم يستبشر بولادة يوم جديد، ويحمد الله عن نعمة الحياة، فيقول عند الاستيقاظ من النوم واستقبال هواء الصباح العليل: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور". إذ الحياة ميدان السباق إلي الجنان والرضا، وموطن العمل والأجر.

ولقد اختص الله تعالي نفسه بمصير الإنسان وتحديد نهايته وجعلها بيده سبحانه، وحرَّم علي الإنسان أن يزهق روحه، أو يقتل نفسه، وتوعد من يفعل ذلك بالويل والثبور. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ". متفق عليه من حديث أبي هريرة. وقال: " َانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ". متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله. وكما كتب الله: أنه من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً، كذلك كتب: أنه من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً. (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
    

الطغاة لا يعرفون للحياة قيمة، ولا من معانيها معنى. ومن أجل أنفسهم وكراسيهم هم على استعداد للتضحية بالشعب كله، لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة!

إن المستبدين والطغاة قد أفسدوا على الناس حياتهم، وألبسوها ثوباً أسوداً على الدوام، وأسدلوا علي الحياة ستائر سوداء حجبت عن الناس جمال طبيعتها وعظيم صُنع الله فيها، وضيقوا على الشعوب كل ما وسعه الله عليهم، حتى أنفسهم ضاقت بضيق العيش، وقلة الرزق، وانعدام الدخل، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بالملاحقة الأمنية، والتجسس، ونشر العيون التي تراقبهم في بيوتهم ومصانعهم!
 
حتى لم يعد الناس يعرفون كيف يعيشون الحياة الكريمة؟! ولا كيف يموتون الموتة الكريمة؟! فزادت أعداد المنتحرين كباراً وصغاراً، وأصبحت التقارير في مصر مع قلتها مرعبة، حين تخرج عليك تُنبأك بأن 21.7في المائة من الطلبة يفكرون في الانتحار. وأن أكثر من 4200 حالة انتحار سنوياً. وألوف غيرهم يموتون على الطرقات بحوادث السيارات والقطارات.

إن الطغاة لا يعرفون للحياة قيمة، ولا من معانيها معنى. ومن أجل أنفسهم وكراسيهم هم على استعداد للتضحية بالشعب كله، لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة! فكم مليوناً من البشر فُقدوا في الحربين العالميتين من أجل حكام مرضى لا عقول لهم؟! وكم من بلد دُمر من أجل أن يظل هؤلاء الحمقى على عروشهم؟!

وفي عالمنا العربي كم دفعت الشعوب من أرواحها، وضحت بدمائها تلبية لطموح حاكم، أو تصفية لخصومة بينه وبين حكام آخرين؟! لقد قدم عبد الناصر أكثر من أربعين ألف قتيل من جنوده في حرب اليمن التي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل. فقط لتصفية حساب مع ملك السعودية وقتها! وأعدم وقتل المئات في سجونه! ثم ماذا كان؟ كانت الهزيمة ونالت إسرائيل من العرض، واحتلت الأرض! وكذلك فعل صدام والقذافي وعلى صالح، وحافظ الأسد قتل أكثر من أربعين ألف وشرد بلدة حماة بالكامل انتقاماً لنفسه، وثأراً لطائفته! وأكمل وريثه الذبح، وأسال الدماء أنهاراً وقتل الملايين، وشرد الشعب، وهدم الوطن على رؤوس ساكنيه، وباعه بالمجان من أجل أن يظل رئيساً ولو مختبأً في قصره لا يحكم! وفي مصر السيسي كثر القتل في الشوارع والميادين وفي البيوت، وعلق الشباب على أعواد المشانق، حتى دخل الموت إلي كل عائلة، وكلكل الحزن على كل منزل،، وتواصل الأنين، ولا مجيب.

حتى ملك اليأس أفئدة الشباب، فهربوا من الحياة إلي الموت في أي ميدان كان! تحت مسمى الجهاد، حتى مع انعدام الأمن الجهادي، وسيطرة بعض أجهزة المخابرات على بعض تلك الميادين. أو حمل بعض القانطين السلاح في وجه جيشه بعدما يأس من الاصلاح. وهذه هي الخطورة، وتلك هي المؤامرة التي تدورعلى هؤلاء الشباب حتى يزهدوا في الحياة، ويُقبلوا على الموت أياً كان شكله، وتحت أي مسمى، بعدما أغلقوا أمامهم كل باب ونافذة يطلون منها على الحياة.
 
يقول الأستاذ سيد قطب في رسالته التي بعثها لأخته من سجنه: " إن فكرة الموت ما تزال تخايل لك، فتتصورينه في كل مكان ووراء كل شيء، وتحسبينه قوة طاغية، تُظِلُّ الحياة والأحياء، وتَرَيْنَ الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة. إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! … مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي! … كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار … الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة … الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار … السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج … كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد! بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! … والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه".
    

خُذوا من مذبحة نيوزلندا العبرة وتعلموا الدرس: كيف حول الله المحنة إلي منحة، ودخل الناس في دين الله، وتضامن الشعب وحكومته مع المسلمين هناك، وبكوا على قتلاهم
خُذوا من مذبحة نيوزلندا العبرة وتعلموا الدرس: كيف حول الله المحنة إلي منحة، ودخل الناس في دين الله، وتضامن الشعب وحكومته مع المسلمين هناك، وبكوا على قتلاهم
  

وإلي هؤلاء الشباب نقول: يجب أن تُفشلوا هذا المخطط، وتُسقطوا تلك المؤامرة، وتتعلموا كيف تصنعون الموت، وتختارون الموتة الشريفة، واحذروا أن يصيبكم اليأس، أو يجد القنوط إلى قلوبكم طريقاً. فأنتم نبتة هذه الأوطان الصالحة، فحافظوا على أنفسكم، حتى تستقلون على ساقكم، ويشتد عودكم، وتينع زهرتكم، ويفخر بكم وطنكم، وتنهضون بشعوبكم.

وخُذوا من مذبحة نيوزلندا العبرة وتعلموا الدرس: كيف حول الله المحنة إلي منحة، ودخل الناس في دين الله، وتضامن الشعب وحكومته مع المسلمين هناك، وبكوا على قتلاهم، ورفعوا كلمات التوحيد- الأذان- في قنواتهم التلفزيونية، ولبست نساؤهم الحجاب لأيام. وكل ذلك لم يكن لينالوا نصفه لو حملوا السلاح، وأرادوا القصاص!

أيها الشباب: إن الكثيرين يستطيعون أن يموتوا بذلة، يأساً وقنوطاً، تحت أول محنة، ومع أول ضاغطة. ولكن القليل منهم من يُقدر للحياة معناها، ويحرص على أن يعيش الحياة الكريمة بعزة وإباء وإيمان، تحت شرف مقاومة ضغوط الحياة، ومواجهة الطغاة، لاسترداد الحقوق المسلوبة، والكرامة المهانة، والوطن المُباع. وذلك شرف في الدنيا، وعلو في الآخرة. 

يقول الإمام البنا: "قد ينشأ الشاب في أمة وادعة هادئة، قوي سلطانها واستبحر عمرانها، فينصرف إلى نفسه أكثر مما ينصرف إلى أمته، ويلهو ويعبث هادئ النفس مرتاح الضمير. وقد ينشأ في أمة جاهدة عاملة قد استولى عليها غيرها، واستبد بشؤونها خصمها فهي تجاهد ما استطاعت في سبيل استرداد الحق المسلوب، والتراث المغصوب، والحرية الضائعة والأمجاد الرفيعة، والمثل العالية. وحينئذ يكون من أوجب الواجبات على هذا الشباب أن ينصرف إلى أمته أكثر مما ينصرف إلى نفسه. وهو إذ يفعل ذلك يفوز بالخير العاجل في ميدان النصر، والخير الآجل من مثوبة الله. واستعدوا يا رجال فما أقرب النصر للمؤمنين وما أعظم النجاح للعاملين الدائبين". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.