شعار قسم مدونات

غادة السمان وغسّان كنفاني.. قصة حبّ أم مجرّد أوهام!

blogs غسان كنفاني

حاولت كثيرًا أن أفهم ذلك الغموض الكامن خلف انجذاب روحٍ إلى أخرى، ما الذي يدفع أحدنا للشعور بالانتماء لشخصٍ آخر يشاركه الكوكب ذاته، ما سرّ كلّ هذه المشاعر المعقّدة والمتشابكة التي قد تدفع أحدنا لربط سعادته وتعاسته بكائن آخر حتى وإن لم يبادله ذرّة، أتساءل وأضع عشرات الإجابات وأختم دائمًا بالإجابة الأكثر منطقية وإراحة لي: "لا أعلم"!

لم تقتصر العلاقات الإنسانية منذ بدء الخليقة على الحبّ، بل ظهرت الصداقة والأمومة والأبوّة والأخوّة والزمالة وغيرها الكثير من التصانيف، إلّا أنّ الحبّ كان أوسعها وأكثرها تعقيدًا وبساطة في الوقت ذاته، ذلك الشعور الذي يضمّ الراحة والألم، القوة والضعف، السيطرة والخضوع، الشعور الذي حاول كثير من علماء النفس فهمه وتحديد ماهيّته وأسبابه، وتوصّل كلّ واحد منهم إلى تعريف وتحليل يختلف تمامًا عن الآخر وكلّها صحيحة وكلّها خاطئة!

سأفترض أنّ غادة كانت صادقة في مشاعرها لغسّان وتبادله الحبّ، كيف تستمتع في نشر نصوص يتضّح جليًّا التذلل فيها لها، والرجاء الحار بالوصل، والتصريح المباشر بأنّه سيظلّ يتبعها دومًا إلى أن يفنى

غسان كنفاني، الكاتب والمناضل الفلسطيني المعروف، الذي وقع أسيرًا في عشق الكاتبة السوريّة غادة السّمان، يبدو جليًّا من بوح قلمه أنّه كان متوعكًّا بها لدرجة استحالة الشّفاء بل كان راضيًا وقانعًا بدائه ولم يبحث عن الدواء أبدًا. بعد اطّلاعي على الكتاب المنشور (رسائل غسان كنفاني إلى غادة السّمان) الذي نشر معظم مكاتيب الغرام المُرْسلة في ستينات القرن الماضي، انتابني الفضول لمعرفة سرّ تلك العلاقة، هل كانت حكاية غسان وغادة قصة حبّ ملحمية أم كانت مجرد خيوط من الوهم عاش عليها غسّان ولم يعلم يومًا ما أنْ بوح قلبه قبل قلمه لتلك الأنثى التي استوطنت أحشاءه، سيكون منشورًا هكذا للجميع وعلى الملأ بحجة بلاغته وقوّة تراكيبه!

تقول غادة في الصّفحات الأولى في الكتاب أنّه كان هناك عهدٌ بينها وبين غسّان حول نشر هذه الرسائل، حيث أنّه من يفارق الحياة قبل الآخر، يتكفل الطرف الثاني بنشر هذا البوح ليكون نموذجًا للحبّ التعبيري الذي يحلم به الكثيرون. أتساءل إن كان هذا الأمر صادقًا أم لا، فالمطّلع على تلك الرسائل سيتشرّب الخيبة المدسوسة بين السطور، وسيتجرع مرارة الخذلان الذي شعر به غسّان في هذه العلاقة، وهو يصف نظرة أصدقائهما لحبّه لها في تلك المرحلة عندما أوضح لها أنّه يعلم أنّهم يشفقون عليه أمامه ويسخرون منه خلفه لأنه يتبعها وهي بالمقابل لا تعيره اهتمامًا! ما يزيد شكوكي أيضًا، ذلك التجاهل والبرود الذي قابلت به غادة كلّ تلك الرسائل، ففي أغلب رسائل غسّان تقرأ: "اكتبي لي، أرجوكِ"، "اكتبي لي الآن"!

لم يكن الحبّ الصادق يومًا وسيلة لإشباع غرور النّفس وملئ كلّ تلك الثقوب الناقصة، لم يكن لتحصيل الشهرة أو الرغبة في الإذلال، فالدرّب فيه واضح إما شعورٌ متبادل أو لا شيءْ، ومن غير الصحي في أيّ علاقة مهما كانت؛ عائلية، صداقة، أو حب، أن تكون في المنطقة الضبابيّة وعدم الوضوح، المنطقة التي كان فيها غسان لغادة كما يبدو لنا، وما أصعبها. بعد كل تلك الرسائل، انتابتني الدهشة والخيبة في الوقت ذاته، الدهشة من كمية الحبّ الذي حواه قلبه لها فكانت حروفه التي يخطّها لها بمداد من قلبه ترافقه في كلّ لحظة وفي كلّ مكان فتراه يكتب لها في كلّ وقت وفي إقامته وسفره. والخيبة من مشاعر الابتذال التي منحتها غادة لي ولأي قارئ -على ما أعتقد- حول نشرها لأشياء خاصة بغسّان حتى وإن كانت مهداة لها!

سأفترض أنّ غادة كانت صادقة في مشاعرها لغسّان وتبادله الحبّ، كيف تستمتع في نشر نصوص يتضّح جليًّا التذلل فيها لها، والرجاء الحار بالوصل، والتصريح المباشر بأنّه سيظلّ يتبعها دومًا إلى أن يفنى، أو تفنى! هل من يحبّ بصدق يقوى على إظهار حبيبه بصورة قد تؤذيه حتى وإن كان ميّتًا؟!  أرفقت غادة في الكتاب بعض الملاحظات طالبة من المُحتفظ برسائلها التي كانت ترسلها لغسان بأن ينشرها!

ولكن من اطّلاعي على بوح غسان، يبدو جليًّا أنّها كانت ترسلْ حروفها له بالقطّارة.. ومن الممكن أنّها كانت ترد على كلّ عشرة رسائل برسالة واحدة! قد أرسلت مرّة له رسالة من لندن تحوي هذه العبارة "شو هالبرد" فقط! أحاول تصوّر شعور غسّان في لحظتها وهو يفتح مظروفًا يأمل أن يقرأ به ما يسكن اضطراب شوقه وحبّه، يا للخيبة! أبرّر لغادة أحيانًا برودها في الردّ، إذ أنّه من الممكن أنّها كانت تعتبر غسّان صديقًا لا تود خسارته، فكانت تردّ على رسائله بكلمات معدودة، وأحيانًا لا تردّ، لكن المهم أن لا تقطع علاقتها به. أما إن كانت غادة صادقة في مشاعرها، برأيي أنّ هذه الرسائل لا يجب تفقد خصوصيّتها ولا يحقّ لأحدٍ بالاطّلاع عليها بحجة أنّها "كنز أدبي".

في حوار صحفي مع أخ الشهيد غسان كنفاني عند سؤاله عن قصة غسان وغادة السمان قال: "اسمحي لي أن لا أخوض كثيرا في هذا الموضوع، فلي تحفظات كثيرة على ما نشرته السيدة غادة السمان، وأسئلة كثيرة لم أجد لها أجوبة بعد! لماذا بعد ربع قرن على استشهاد غسان تقوم السيدة غادة بنشر رسائل غسان لها؟. ولماذا لم تنوّه بحرف عن رسائلها لغسان؟. وهي لم تقل أنها نشرت الرسائل من أجل ترسيخ إنسانية غسّان، بل للتباهي بأنوثتها بعد أن استنزفها الزمن وفقدت نبض تلك الأنوثة! ولكن، وعلى الرغم من ذلك كله أقول بملئ الفم، إنها بنشر رسائل غسّان عرّفتنا على جانب آخر من شخصية غسان الإنسان، وأدب غسّان الإنساني فنحن مهما أخذتنا مسارات النضال والالتزام الوطني والقومي، نملك مشاعر وأحاسيس يفترض أن نعبّر عنها بطرائق مختلفة ونحن نخرج من عباءة المادّة، إلى عوالم الروح.. فنحن بشر بالمحصلة ولسنا من سرب الملائكة، ولسنا في دوائر القداسة المطلقة..".

تفاصيل العلاقة الدقيقة ستبقى سرًّا محصورًا بين طرفيها ولن تظهر حقيقة الأمر إلا بنشر بوح غادة المهدى لغسان. وبطبيعة الحال لا يحقّ لأيّ إنسان كائنًا من كان أن يتدخّل في حياة أحد الشخصية وأن يلومه على مشاعر قدّمها أو احتفظ بها، فالقلوب لا تُمْلَك في نهاية الأمر. المُمنتقد في كلّ هذه الحكاية هو عملية نشر الرسائل بعد استشهاد غسان، فأسرار أيّ علاقة يجب أنْ تظلّ محصورة بين طرفيها، وإن مات أحد الطرفين صار أولى الاحتفاظ بها وعدم نشرها مهما بلغت روعتها.

ستظلّ الحروف تخفي الكثير مهما حاولت أن تظهر عكس ذلك، وسيظل الغموض هو سيد الموقف، ويبقى السؤال، هل قصّة غسان كنفاني وغادة السّمان قصّة حبّ أسطورية تستحقّ التأريخ للكنز الأدبي الذي حوته كلّ هذه الرسائل؟ أم أنّها مجرد حبائل من الوهم تعلّق بها بطل من أبطال الحكاية واستغلها البطل الآخر؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.