شعار قسم مدونات

أحدب نوتردام وحدباء الموصل

blogs مسجد النوري

كاتدرائية نوتردام أقدم كنائس فرنسا، تلك الكنيسة التي لا تشيب بتعاقب السنين وتظل عذراء كأنها بنيت هذا الصباح تحاصرها ألسنة اللهب وتعبث بتاريخها كسيدة لكنائس فرنسا إن لم نقل أوربا. تلك الكنيسة التي ظلت واقفة تحكي تاريخ فرنسا العصور الوسطى، فرنسا النبلاء، فرنسا الصراع الطبقي، فرنسا التاريخ بكل انتصاراته وانكساراته.

  

أول ما قرأت خبر إحتراق الكنيسة تذكرت أحدب نوتردام لفيكتور هيجو، تذكرت بابا المجانين كوازيمودو الشيطان البائس وهو يدق كل الأجراس بعنف ليوقظ سكان باريس الذين لا يطيقون رؤيته لأنه يذكرهم بحيوانيتهم الأولى التي لم يكونوا قد نخلوا عنها بعد، تذكرت أزميرالدا تلك الغجرية المسكينة الجميلة الراقصة السمراء ذات الشعر المجعد، أزميرالدا العاشقة البريئة التي تمثل الإنسان بإنسانيته وحيوانيته في كل زمان ومكان والتي راحت ضحية عدالة لا يعرف كفتي ميزانها الضعفاء والمقهورين.

 

للمباني الكبيرة والأثار العظيمة نهايات ليست في الحسبان فمن ذا الذي كان يظن أن حدباء المسلمين سيرممها المسيحي عبودي الطنبورجي ويدمرها المسلم أبو بكر البغدادي

تذكرت كلود فرللو بكل تناقضاته ومكبوتاته، كلود فرللو الذي كانت غايته في الحياة المعرفة، المعرفة وفقط، كلود فرللو الإنسان الذي عطف على الكوازيمودو ورق قلبه لهذا المخلوق المشوه بعد أن تخلى عنه جميع سكان باريس، كلود فرللو عاشق الأزمرالدا منذ أول رقصة لها، كلود فرللو الشرير الذي كاد للأزميرالدا التي لم تستطع حبه، كلود فرللو رجل الدين الزاهد المتعبد، تذكرت عيد المجانين ونيران الفرح وغرسة أيار، تذكرت جميع شخوص الرواية وتسكعت معهم في باريس 1482.

 

باريس الحزينة

شاحب وجه باريس هذا الصباح كاذب كما نيسان، لم أرى باريس مهزومة قط من قبل كما اليوم، كانت الألاف من وجوه الباريسيين والفرنسيين ومعهم السواح والمشاهدين من مختلف بقاع العالم مشدودة نحو الكنيسة الأشهر وهي تصارع ألسنة اللهب غير مصدقين أن عصورا من التاريخ تتهاوى أمام أعينهم. وكيف أن ضحكات العشاق وابتساماتهم وآهات البؤساء وأناتهم وصلوات المؤمنين وابتهالاتهم ودعاءاتهم التي ظلت تمائم معلقة على صليب الكنيسة وجدرانها من شارلمان واضع حجرها الأول مرورا بفليب أوغست واضع حجرها الأخير وإلى اليوم قد أتت عليها النيران وكيف بحت أجراسها لأول مرة في التاريخ.

 

أين الأبواب الجميلة وصفائح الزجاج الفاتنة ونجارة دي هانسي الدقيقة اللطيفة أين ذلك التاريخ العالي أين ذلك الفن القوطي أين همسات العشاق واعترافات المذنبين أين شهقة السواح المبهورين، ضاع ذلك كله بين ثرثرة اللهب أتراها لعنة الأزميرالدا المسكينة أم انتقام كوازيمودو اللعين.

 

الانحناءة الأخيرة

ذكرني حريق كنيسة سيدتنا العذراء (Notre Dame) بحدباء الموصل منارة مسجد النوري التي ظلت صامدة قرابة تسعة قرون من عهد نور الدين زنكي-1173 تاريخ بناؤها- إلى أبي بكر البغدادي- 2017 تاريخ تدميرها-، منذ انتصابها في انحناء تعبد وخشوع ظلت تصرخ في سماء العراق أن الله أكبر من كل الطغاة أعداء التاريخ والإنسانية.

 

كسنديانة التاريخ منذ انحنائها لمريم العذراء المدفونة قرب أربيل في اتجاه ميلانها، ثم ميلانها خجلا في حضرة النبي الخضر إلى انحنائها للإمام علي الذي جاءها زائرا لأحد أحفاده. ظلت الحدباء هكذا في انحناء الراكعين لم يثنها عن خشوعها بطش المغول ولا تعاقب الغزاة والمحتلين، منتصبة ظلت تحمي تاريخ الموصل والرافدين إلى أن جاء الظلاميون ممن يرفضون موت الليل الطويل فنسفوها بعد آخر يوم من ربيع 2017 -21 حزيران – ونسفوا معها عصورا من تاريخ العراق المشرق، اندثرت الحدباء في ثوان على مرأى ومسمع العالم وتدثرت بحجارتها وغبارها إلى الأبد. وفي زحمة التدمير وموجة التقتيل تلك التي سادت العراق لم تحظى الحدباء بدمع كثير عكس كنيسة نوتردام التي بكاها العالم بعيون كثيرة فبكاها الأدباء والخطباء والعشاق والرؤساء والشعراء والفقراء والأغنياء من مختلف بقاع العالم.

 

إن للمباني الكبيرة والأثار العظيمة نهايات ليست في الحسبان فمن ذا الذي كان يظن أن حدباء المسلمين سيرممها المسيحي عبودي الطنبورجي ويدمرها المسلم أبو بكر البغدادي، وكيف لكنيسة هاربة من حروب القرون الوسطى أن تنهي حكايتها نيران الفرح. لم تكن كنيسة نوتردام أو حدباء الموصل تراثا خاصة بالمسحيين أو المسلمين فقط بل كانتا بيوتا لله وإرثا حضاريا مشتركا للإنسانية جمعاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.