شعار قسم مدونات

ليست لشرب القهوة فقط.. كيف تنظر للمقهى بعيون سوسيولوجية؟

مدونات - قهوة مصر

المقاهي فضاءٌ للترويح عن النفس والذات، كما أنها فِرارٌ وهروبٌ من ضغوط العمل والبيت أيضا، فالبعض يتصوّر المقهى أنه مكانٌ مناسب للتخلص من أعباء ومشقة الشغل التي ترهق وتتعب الإنسان لذلك فهو يفضل ارتياد المقهى من أجل أن يحسّ بالراحة والارتياح كأنّ جو المكان يتيح له إمكانية ذلك. غالبية مرتادي المقاهي يلجؤون إليها وكل له مآرب خاصة به لكي يقضيها من خلال جلوسه ومكوثه بها، فهناك من يقصدها بغية احتساء القهوة أو الشاي أو بهدف التدخين وقراءة الجرائد والصحف أو معاً، وثمّة نوع آخر يتجه إلى المقهى من أجل أن يتحصّل على عمل، لاسيما من فئة الحرفيين الذي يمتهنون المهن والحِرف حيث توفر لهم المقاهي إلتقائهم بزبناء يحتجون إليهم.

فالمقهى إذاً ليست مكانا لاحتساء المشروبات على شتى أنواعها فحسب وإنما فضاءٌ سوسيولوجي صرف يتقاسم فيه الرّواد كل ما يدور من أحداث ووقائع سياسية واقتصادية ودينية وغيرها من المواضيع التي تكون محطُ اهتمام الرأي العام بها، ناهيك عن موضوع الرياضة الذي يظل يستأثر الجالسين بالمقهى، خاصةً كرة القدم، اللعبة المفضلة عند الجميع والتي تجعل المقهى غاصّةً عن آخرها، لا سيما عندما تبث المقابلات عبر الشاشات.

سوسيولوجياً تعتبر المقهى من بين الفضاءات الترفيهية التي تُرفّه على الناس، فهي مجمع جميع صنوف الناس حيث تجمع العامل والعاطل عن العمل والفقير والغني وكلّ له شأن يغنيه

وهناك مقاهٍ ثقافية وفنية تجمع طبقة المثقفين والفنّنين الذين يعرضون إصداراتهم بهدف التعريف بها ومشاركتها مع الجمهور، وهذه المقاه على ندرتها وقلّتها لكنها صارت في هذه الآونة الأخيرة تلقى اهتماماً من لدن الناس الذين تستهويهم القراءة والفن، بحيث أصبحت موضع انعقاد الورشات الثقافية والفنية في كل مناسبة وحين ما يجعل المقهى مكان متميز ومختلف عن باقي الأمكنة التي تصنّف أنها فضاء للتسلية والترفيه، وثمّة العديد من المقاهي التي ما زالت محافظة على صبغتها وطابعها الثقافي التي عُرفت به، لكن غالبيتها غيّرت من نسقها القديم وتحوّلت من مقاه ثقافية تساهم في نشر المعرفة والوعي إلى أخرى تقدّم مختلف أنواع وأشكال النّرجيلة وغيرها من وسائل التدخين، وذلك بغرض ربحي واقتصادي أكثر.

خاصة أن مثل هذه المقاهي صارت تدرّ مداخيل مادية مهمة، الشيء الذي سرّع من هذا التغيير الجذري الذي طالها، وحقيقة نحن لا نعيب على أرباب هذه المقاهي لأن المبتغى من هذا المشروع هو أن ينتفع به صاحبه، لا أنْ يتمّ تخصيص مقهى ثقافي بدون أن يجدي نفعاً ماليا، اللهمّ إذا تدخلت وزارات الثقافة بهذا الشأن وساهمت في تشجيع وتنويه أصحاب هذه المقاهِ معنويا وماديا، وهذا أمرٌ آخر من شأنه أن يبقي على المقاهي الثقافية متراصّةً في أرجاء شوارع المدن وساحاتها العامة، لكن في بعض الدول العربية لا تجد مقهىً ثقافيا واحداً.

هناك مقاه شعبية يرتادها عامّة الناس والتي تكون لهم قِبلة لا يزيغون عنها بحيث تبقى فضاءً يقضي فيه بعض المرتادين سحابة يومهم وهم خائضين في لعب الورق والنّرد فيما بينهم وهذا النوع من المقاهي يتيح لزبنائه الكرام لعب القمار بحيث يقدّم لهم شاشات تلفزية تَبثُّ رهان سباق الخيول على مدار اليوم، والرّاهنين على هذه السباقات يمكثون طويلا في تجريب حظهم من أجل الظفر برهان أحد الخيول الذي راهنوا عليه. سوسيولوجياً تعتبر المقهى من بين الفضاءات الترفيهية التي تُرفّه على الناس، فهي مجمع جميع صنوف الناس حيث تجمع العامل والعاطل عن العمل والفقير والغني وكلّ له شأن يغنيه، فالعاطلين يقصدونها من أجل شر اتقاء الوقوف عند ناصية الشوارع والأزقة، بينما الأصناف الأخرى تتجه إليها بهدف كسر رتابة عملهم، في حين بعض الناس يظن أن التّردد على المقاهي مَضيعة وإهدارٌ للوقت، لكن مدمني المقاه إذا ما غابوا عنها يوماً واحدا كأن شيئاً مّا ينقصهم.

كما أنّها بمثابة ملجأ يلجأ إليه المرتاد خاصّة عندما لا يعرف أين يذهب، فبعض المقاهي تترك بابها مفتوحاً على دفتيّه على مدار اليوم والساعة، ما يمنح للبعض قضاء ليلة بيضاء، لاسيما الطلبة إبّان الامتحانات حيث تكون وجهتهم إلى هكذا مقاه التي تخّصص ركناً خاصا بالطلاّب من أجل المذاكرة والمراجعة، الشيء الذي يجعل المقهى فضاءً شمولياً له خدمات كثيرة يقدمها لمرتاديه. قديما كانت المقاهي مختلفة عمّا عليه الأن من حيث الشكل فمثلا في البوادي المقهى عبارة عن خيمة كبيرة وبها حصائر تقليدية من الدُوم، حيث يجلس الناس أرضًا يستندون على أكتافهم وهو يحتسون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث، وهذه المقاهي كانت في الأسواق الشعبية، لكنها اندثرت مؤخرا وصارت تعتمد على الكراسي بدل الحصير.

مهما يكن من أمر فالمقاهي صارت ذائعة بشكل ملفت في ربوع الدول والأمصار حتى أًصبح هناك بين المقهى و المقهى توجد أخرى، كأن هذا الفضاء يتميز بقوة جذب غريبة، ولايمكن الإبتعاد عنه أو مقاطعته بسهولة، فهى تنشر ثقافة الود والتعارف بين مرتاديها، وكما قال الشاعر نزار قبّاني مقاهي العالم هي الأكاديميات التي يتخرّجُ منها العُشَّاق، وحينَ تُقفلُ هذه الأكاديميَّات أبوابها تنتهي ثقافةُ الحُب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.