شعار قسم مدونات

لم أعد أريدني كبيرا يا أماه!

blogs تفكير

في هذا الركن من العالم، أجدني وحيدا تعتريني الغربة بكل ما أوتيت من قوة. لم أتصورني أبدا من ذي قبل أن أوجد في هذا المكان يوما ما.. في هذه الحياة الغامضة، نجهل مصيرنا، نتيه بين أقدارها، ونستنشق عبق الأمل في أزهارها. في هذه الحياة، نستمد الصمود من أشياء بسيطة ثقيلة لدينا: الأمل في غد أفضل والثقة بالذي لا يخذل أبدا!

وسط هذه الكم الهائل من البشر، ووسط الوجوه الكثيرة التي يمكن أن تقابلها كل يوم، ننتظر! ننتظر لقاء وجه مألوف نلقي عليه التحية، علنا نتذكر أيام منسية تزودنا بسعادة ذكريات مؤقتة.. جربت مصادفة نسمات الفجر البارد، ذاك التوقيت من اليوم الذي لطالما حلمت بمصادفته، والذي حلمت اكتشاف شكل الشروق من خلاله، فكثيرا ما حاولت في طفولتي الاستيقاظ عند الفجر ومعرفة الكيفية التي تجري بها هذه الظاهرة الطبيعية الغامضة في نظري حينها. أما اليوم فقد صرت لا أطيق أن أكون مستيقظا ولا مصادفا إياه، لأنني كبرت بما فيه الكفاية!

في عالمنا يا أمي، تكتب جمل سحرية على مربعات أوراق يومياتنا البسيطة، تجعل من "سيكون الغد أفضل بإذن الله" تعويذة تتمايل أحلامنا على سحرها، فتجعلها سر سعادتنا في اليوم المقبل حقا!

حينما كنا أطفالا، لم نكن ندرك كيف ننظر للأمور المعقدة على أنها معقدة، بل بالأحرى، كنا نتقن كيف ننظر إليها ببساطة، فنحولها بعصانا السحرية إلى السعادة التي تغمر الصغار، وتجعل الكبار يبتسمون رغم تعاستهم. كبرت بما فيه الكفاية أنا أيضا، وصرت أرى في ما بعد الفجر الذي حلمت برؤية شروق الشمس من خلاله، منظرا لا أكاد ألمحه من شدة النعاس الذي يملأ عيني! تنقضي الأيام التي نعيشها بنفس اللهفة، ونفس النفس الذي يتباطأ شيئا فشيئا. لكننا لا نحاول التغيير مطلقا. لا نحاول استرجاع ذاك الطفل داخلنا، بل ونقتله كلما حاول النهوض والبوح بكلمة واحدة. نتمالك غضبه الطفولي بشدة، ونخشى أن يلمحه أي أحد جوارنا وهو يثور محاولا الخروج إلى واقعنا!

عالم الكبار، عالم سيء جدا يا أماه، وأنا الذي وإن صرت كبيرا اليوم إلا أنني ما أزال ذاك الطفل الذي عاقبته في كل مرة إما بحزام أبي الجلدي، أو بنعل حذائك البلاستيكي، وكلاهما قاس. لكنهما لا يتجاوزان قساوة محاولة التعايش في عالمكم: عالم الكبار! عالمكم يا أمي عالم كاذب، فيه لا يُبتسم في وجه الآخر إلا لسبب وراءه، ولا تُلقى التحية أبدا في وجه الغرباء.. في عالمنا، نحن الصغار، نلقي ابتسامة بريئة خجولة في وجه كل من نصادفهم، أما الذي يكرم علينا بمداعبة طفيفة للشعر، فهو ينال أعرض رسمة للشفاه على وجوهنا، ويظفر بلمح خدودنا موردة من شدة الخجل.

نحن نلقي تحيتنا الكتومة البريئة على كل البشر، ولا نميز أبدا بين الغني والفقير، بين الأبيض والأسود ولا بين المسيحي والمسلم! لا ننظر إلى من نلتقيهم بنظرة خاطفة جامحة، ولا نسترق الكلمات المتمتمة الحاقدة، ونكون دائما مستعدين للخوض في لعبة طفولية مع أي كان. وإن انتهت بشجار عنيف، فإننا نتصالح بعد دقائق لا لأننا وقعنا معاهدة سلم، بل ﻷننا لم نعد نتذكر مطلقا الذي دار خلال الشجار بيننا!في عالمنا، لا ندرك كيف يمكن أن يتكبر المرء لشيء من الجاه الذي يملكه، بل نتقاسم حبات عباد الشمس واحدة واحدة، مستغرقين في عملية عدها لساعات من الزمن، أما إن كان العدد فرديا، فإننا نتقاسم الحبة المتبقية بجهد وسرور كبيرين!

في عالمنا يا أمي، تكتب جمل سحرية على مربعات أوراق يومياتنا البسيطة، تجعل من "سيكون الغد أفضل بإذن الله" تعويذة تتمايل أحلامنا على سحرها، فتجعلها سر سعادتنا في اليوم المقبل حقا! في عالمنا، نكن الحب لكل أنواع القطط الجذاب ريشها والمجعدة شواربها، ولا نميز بين موائها أبدا. نعانقها بحنان يخنق أنفاسها، ولا نتردد في الركض وراءها لساعة من الزمن. في عالمنا، لا نعير اهتماما لما يدور حولنا، نتثاءب وأفواهنا مفتوحة على آخرها، نصرخ ولو أحاطت بنا مئات الوجوه المحدقة، نضحك ولو كنا وسط آلاف الملامح العابسة، وننام بكل كسل رغم الشمس التي تختال بأشعتها وسط سماء الظهيرة.

في عالمنا، نمر بالأزهار فنستنشق رائحتها الزكية، نقطف بضعة ثمار ونركض يمينا وشمالا غير آبهين للزمن الذي يمر مسرعا بنا إلى عالمكم! عالمكم يا أمي، ممتلئ بالشر على آخره، وتُنتزع فيه الفطرة منا، نصبح فيه محاصرين في قطعة صغيرة ملونة، واللون الذي تحمله القطعة التي تنتمي إليها، يعبر عن مقدار المال الذي تملكه، عدد الأسماء التي يمكن أن تُنسب إليها، والكثير من المعدلات التي تجيب عن سؤال واحد "من تكون، وما هو مقدارك وسط هذا العالم؟". في عالمكم تمحى الابتسامة في وجه ساكنة القطعة الأقل منك مرتبة، وتتحول إلى ابتسامة تَسَوُّل في وجه القطعة التي تفوت قطعتك درجة أو درجات!

في عالمكم، نصبح ملزمين بالتزام منهج صارم تفرض بنوده حسب نوعية القطعة التي تنتمي إليها، فكلما انتقلنا من قطعة إلى الأعلى منها درجة ازدادت صرامة المنهج وأصبح أكثر إلزاما، وأقل فطرة. في هذا الركن من العالم، أجدني وحيدا تعتريني الغربة بكل ما أوتيت من قوة. لم أتصورني أبدا من ذي قبل أن أوجد في هذا المكان يوما ما.. في هذه الحياة الغامضة، نجهل مصيرنا، نتيه بين أقدارها، ونستنشق عبق الأمل في أزهارها. في هذه الحياة، نستمد الصمود من أشياء بسيطة ثقيلة لدينا: الأمل في غد أفضل والثقة بالذي لا يخذل أبدا! سيكون الغد أفضل بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.