شعار قسم مدونات

فكّر فيما ستتركه للناس بعد مغادرتك هذا العالم!

blogs تأمل

حل الشهر الثاني من فصل الربيع مبتدءا بيوم الكذب، اليوم الذي لا يليق بنا، أتذكر أنني كنت أحدث إحدى صديقاتي عن حالاتي في البيت بألوانها الحية، أنقل الصور كما هي دون المساس بفلترها كما كنت أحرص على نقل السيء قبل الجيد، فقبل أن أحدثها عن عاداتي الإيجابية التي ألتزم بها وأخرى التي أحاول الالتزام بها، وعن الهدايا التي أشتريها لأفراد عائلتي والتزامي بصلة الرحم، كنت أنقل لها حالات الغضب التي تنتابني أحيانا وتقاعسي عن أداء أعمال المنزل في أحيان أخرى كما لم أخفِ عنها قضائي ساعات مطولة على الإنترنت دون فعل شيء في بعض المرات وما إلى ذلك، بينما كانت تتدعي هي أنها البنت المفضلة لدى والديها لأنها مواضبة دائما على الفرائض الدينية، وهي التي تتعب في الأعمال المنزلية، ومع إخوتها لأنها تقوم بتربيتهم وتراجع لهم دروسهم وتعلمهم الفرائض من صلاة وأذكار وغيرها، إلى أن أتى اليوم الذي التقيت فيه أمها بالصدفة وترجتني أن أعلم ابنتها الصلاة، نعم كل شيء كان كذبة.
 
الشرطي الذي أخبرنا في طفولتنا أنه يحرص على أمننا وأن هدفه الأول هو حمايتنا قد أصبح اليوم المصدر الأول للخوف، المهرج في المسرحية كان هدفه جمع النقود وليس إضحاكنا أو إسعادنا، مصباح علاء الدين وساحرة سندريلا غير موجودان في الحقيقة وقوس المطر ما هو إلا تحلل للون الأبيض؟ كل شيء كان كذبة ونحن صفقنا له ببراءة وهم استغلوا هذه النقطة فينا ثم حولوها إلى نقطة ضعف، بعد أن كانت البراءة والصدق أكثر شيئين مطلوبان في هذا العالم في وقت مضى وتمضي الأيام والسنوات، لم يتغير شيء فينا منذ الطفولة هم يكذبون ونحن نصفق لأن الحياة قد غيرت مظهرها وخارجنا ولم تستطع تغيير ما بداخلنا أو المساس بقلوبنا وتعكير صفائها.

أوقفت حبل أفكاري وجلست على مكتبي ثم سحبت ورقة بيضاء وكتبت عليها: هذه رواية جديدة أكتبها، لا وقت لدينا للتحليل والتفسير، التأمل في مشاكنا يزيدها حدة، العمل هو الحل

وبين هذا وذاك عادت إلي ذكرى أحد الجيران الذي توفي الأسبوع الماضي، رجل في الخمسينات من عمره، لطالما كنا نسمع صوت شجاره مع زوجته في الليالي المتأخرة يرافقه أحيانا صوت انكسار الأواني، هذا كل ما كنا نعرفه عنه فهو قد كان إنسانا ذا ملامح قاسية لا يخالط الناس ولا يحادث أحدا، حتى أنني لا أذكر متى آخر مرة رأيته يبتسم فيها أو ربما أنا لم أره يبتسم قط.

تساءلت ما حال زوجته الآن فآخر مرة رأيتها فيها كانت يوم الدفن، هل هي تذرف الدموع الآن أمام الناس فقط كي لا يقولوا عديمة المشاعر؟ أم أنها تدعو له بالرحمة والمغفرة صدقاً من أعماق قلبها؟ ترى ماذا سيقول الناس عنك بعد موتك؟ سؤال تسلل إلى فكري فجأة فأرعبني، حتى إن مجرد طرحه دون محاولة إيجاد جواب له يثير الرعب، وربما هو أكثر إثارة للرعب من فكرة الموت ذاتها، هل سيذكر الناس محاسنك ويتجاوزون سيئاتك فقط لقوله عليه الصلاة والسلام: "أذكروا محاسن موتاكم"؟ أم أنهم سيدفنونك ويبكون عليك ليومين، يدعون لك بالرحمة ثم ينسون مكان قبرك مع مرور الأيام؟ في خضم هذه الأفكار تأملت كتاباتي وتساءلت ماذا سيقول الناس عنها عندما لا أكون أنا موجودة على هذا العالم؟ أرعبتني الفكرة قليلا، فكرت أنهم ربما لن يفهموا منها شيئا فحتى أنا قد لا أفهمها بعد عام من الآن.
 
ربما الناس لا يكونون أحيانا لحياتنا مقياس فبعضهم لا يملك لحياته أساس فما بالك بحياتنا نحن تساءلت كيف يمكننا أن نترك أثرا طيبا يبقى للناس من بعدنا ينتفعون به، عندما نكون قد غادرنا هذا العالم؟ وكيف لنا أن نفعل هذا أمام ضربات الحياة المتتالية، وصدماتها التي ما نلبث نستوعبها إلا ونتلقى أخرى غيرها. أوقفت حبل أفكاري وجلست على مكتبي ثم سحبت ورقة بيضاء وكتبت عليها: هذه رواية جديدة أكتبها، لا وقت لدينا للتحليل والتفسير، التأمل في مشاكنا يزيدها حدة، العمل هو الحل أو هو على الأقل تقليص للفراق لنا مع الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.