شعار قسم مدونات

قطار حياة أم طائرة نفاثة..

blogs تأمل

الزمن! مُشكلةٌ ما بعدها مُشكلة، ولطالما كانَ المُعضلة لدى علماء فيزياء الكمّ! ومدُّهم وجزرهم يُحرّكُ قارب الزمن منذُ نشأتْ علوم الكمّ، وظهورِ أباطرته كماكس بلانك، بور، شرودنجر، وهايزنبيرج، ولعلَّ الوحيد الذي رأى الزمن بطريقةٍ مُختلفة ومتفرّدةً عنهم هو آلبرت آينشتاين، ولكنّني لستُ بصددِ الحديث عنه من زاويتهم، وإنّما هذه مقدّمة فقط، غايتي منها وضع الزمن في مقامه المُعقّد، ولعلَّ أعقدُ مقامٍ هو ما وردَ في فيزياء الكمّ.

 

كنتُ قدْ بدأتُ غُربتي في عامِ أربعة عشرَ وألفين، ولكنّني لا أذكر كيف مضتْ خمسُ سنواتٍ وأنا في هذه الغُربة، فالتسارعُ الحاصل لا يخضعْ لمنطقٍ في رأيي، ولهذا لمعتْ فكرةُ هذا المقال، لأحاولُ جاهداً، وأنا أتصبَّبُ عرقاً، تائهاً تارة، ومُركّزاً تارةً أخرى، وهذا كلّه، في سبيل إضافةِ شيءٍ من المنطق لهذا التسارع الغير مفهوم.

  

يعيش الإنسان في "معمعة" تطحنه في كلِّ يوم، إلى أنْ يُصبح كائناً آخر! إنساناً انزلق في وحلٍ ومصيدة لمْ يضعها بالحُسبان، ولمْ يتخيّلها بالمرّة

يقول الدكتور براند في فيلم Interstellar: "أنا فيزيائي عجوز! أنا لا أخافُ من الموت، وإنّما أخاف من الزمن"، ترى نفسك في الثلاثين من عُمُرِك، ترى نفسك واقفاً، لتُقرّر في هذه اللحظة أنْ تقف قليلاً وتُفكّر فيما يُحيط بكْ وفي مُجريات حياتك! ويقول تولستوي في هذا: "أتمنّى من البشر أنْ يرموا كلَّ شيءٍ جانباً، ويتأملوا قليلاً"، فهذا هو الجدل، وهذا هو اللامنطق في الأشياء إنْ تناسينا الشغف! هذا الشغف الذي يبحثُ عنه كلُّ واحدٍ منّا، إنَّ مُعظم النّاس يعملون ويكدّون للعيش والاستقرار، وفي خلال هذه "المجزرة العمليّة" تضيع الكثير من المواهب، ويضيع الكثير من الشغف، وهناك من يعلمْ ويُدرك شغفه، والقسم الآخر لا يعلمْه، ولمْ يُفكّر به أصلاُ، لأنّه ضاعَ في المجزرة السابقُ ذكرها.

 

في يومٍ روتيني ما، وقعتْ عيني على أحدِ مقاطع الفيديو المُتعلّقة بالتنمية البشريّة، وعلى الرُغمِ من رفضي لمُعظمها، إلّا أنّني قرّرتُ سماعه –ولمْ أندمْ على هذا- يقول الراوي في هذا المقطع: "إنَّ المقابر ليست مليئة بالأموات، وإنّما مليئةٌ بأحلامٍ ومواهبٍ ضائعة". فيما مضى كانَ النّاس يُردّدون ويشرحون هذا التسارع بقطارِ الحياة، وتختلفُ عمليّة الشرح هذه، فمنهم من يُخْرِج ما في صدره مع آهاتٍ مصحوبةٍ بحسرة! يُخرجُ ما في صدره شاتماً هذا القطار الذي فاته! ونرى قسماً آخر، يُلقي اللوم على هذا القطار الذي قام بدهسهِ، فلمْ يتركه القطار وحسب، بلْ كانَ سبباً في دمارِ حياته بالمُطلق –هكذا يقولون- ولكنَّ هذا القطار بريء منهم براءة الذئب من دمِ يوسف.

  

خلافُنا هنا لا يدور حولَ التسميّة، فالمصطلحُ بليغ! يصفُ الدنيا على حقيقتها، فهي تلك الرحلة التي ستنتهي عند محطةٍ ما في النهاية، ولكنَّ الخلاف يكمن في اتّهام القطار وجعله المُجرم والجاني! إنَّ مُشكلتنا مشكلتان في الحقيقة، الأولى في طولِ الأمل وتناسي التسارع، والثانية في قصورنا عن فهمِ الزمن، ولنْ أتطرّق إلى الثانيّة، فالأولى التي تهمّني هنا.

  

يعيش الإنسان في "معمعة" تطحنه في كلِّ يوم، إلى أنْ يُصبح كائناً آخر! إنساناً انزلق في وحلٍ ومصيدة لمْ يضعها بالحُسبان، ولمْ يتخيّلها بالمرّة، فقطار الحياة الذي يتكلّم عنه كلَّ يوم أخذَ منه الكثير دون وعيٍ منه، فنحن نتكلّم ونتكلّم، ونضعُ المُشكلات على الطاولة لسنين، والمحاججة هي إبداعنا، وفي النهاية: هل منْ حلول على المستوى الشخصي مثلاً؟

 

مُعادلتُنا اختلفتْ تماماً الآن، فهذا القطار لمْ يعدْ قطاراً، وإنّما تحوّلَ إلى طائرة! وليست طائرة عاديّة وحسب، وإنّما نفّاثة أو مُقاتلة كال F16، وحاولتُ ألّا أكون خيالياً في وصفي، فاكتفيتُ بوصفِ هذا التسارع بالطائرة، ولمْ أقلْ ضوء أو شيئاً من هذا القبيل، معْ أنَّ هذا التسارع وُصفَ بهذه السُرعة في قرآننا الكريم، إذْ يقول ربُّ العزّة: "كمْ لبثتم في الأرضِ عددَ سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعضَ يوم فاسأل العادّين"، ولكنْ، سأجعلْ الكُرة في الملعب الدنيوي الآن، ولنْ أقفز إلى الماوراء كيْ لا يفقدْ المقال معناه الحقيقي الذي أُريدُ إيصاله.

  

لا أرى مبرّراً لتقاعس الإنسان عن شيءٍ يُحبّه وهو يعلمْ أنّها حياةٌ واحدةٌ فقط! ولعلَّ الخوف الوحيد هنا هو فقدان الإحساس بالزمن

شُعور الإنسان هو مَربط الفرس إنْ أردنا الوصول لحلٍّ ناجع لهذه المُشكلة، يمضي الزمن والإنسان ما زال يُفكّر! سأفعل كذا وكذا، ويُصبح للمخططات حيّز ضخم في حياته، ولكنْ، وما الجدوى دون تطبيق؟ أُشَبِّه ما يحصلُ معنا بسفينة دونَ قُبطان، تُبحرُ لوحدها دونَ قائدٍ ومُسيّرٍ لها! ويظنُّ الإنسان أنّه بمجرّد التفكير ووضعِ الخطط بأنّه قدْ نجى، ويُواسي نفسه بذلك عندَ فواتِ الأوان، ويُحدّثُ نفسه مراراً على أنّه لمْ يكنْ سلبيّاً وإنّما صارع نفسه بالحديث معها على الأقلّ! وهذا ما سيحدث مع السفينة تُبحر كالأفكار إلى المجهول، دونَ الوصول إلى غايةٍ منشودة، ولا يُصبح لأفكاره أيّ معنى وستغرق السفينة!

 

يمضي الزمن على الكثير من المواهب والقدرات الفكرية الفذّة وتذهب أدراج الرياح لسببٍ واضح وصريح لدى الجميع، ألا وهو المال، فالجموع الغفيرة في المُجتمعات لا تنظر لهذه المجالات على أنّها نجاحات ذات أثر، وإنّما يرون في المال كلَّ شيء، وقدْ يكونوا على حقّ، نظراً لتوافق الواقع مع المال! حتّى أنَّ أصحاب رؤوس الأموال صاروا يتكلّمون في الفكر، الأدب، والسياسة، لأنّم يملكون المال فقط، حتّى أنَّ هناك مثلاً عاميّاً دارجاً بيننا فحواه: "لو معي مصاري بتردّ عليّ"، فالأمر لا يقتصر على أدبيات وبلاغة، وإنّما انتقل إلى العوام ونظموا له الحكم والأمثال، فالمال يفعل كلَّ شيء..It’s all about money.

 

في ظلِّ هذا الطرح يضيع الكثير، وطائرتنا هنا لنْ تنتظرَ أحداً، فمنْ رفضَ التمعّن في نفسه، وانكبّ ناسياً نفسه من أجل المال فيسقط من هذه الطائرة الرهيبة في السُرعة، وما أودُّ قوله هنا: أنَّ الإنسان متعذّر فهمه كما قال بيجوفيتش –رحمه الله- وأضيف هنا: أنَّه يعجزُ أحياناً عنْ فهمِ نفسه، فالحريُّ بنا أنْ نقفَ مسؤولين أمام أنفسنا، ونبحث عن مواطن القوة مهما كانتْ النتيحة، ومهما تكلّم النّاس، فالسائد هنا هو من يملك المال، أمّا إذا كنتَ قامةً علميّة مُثقلة بالديون فسيأتيك الفشل من حيثُ لا تدري! فأساسُ الصمود في أحداثك هذه هو الصمت! والعمل في صمتٍ أيضاً! ومنْ ثمَّ التظاهر بالطَرَشْ، فهذا هو النهج أيّها الأحبّة.

 

يقول مارك توين: "عودةُ الزمن إلى الوراء: أشْهرُ أمنيةٍ اتّفقت عليها البشريّة"، ففي الختام كانتْ هذه المقولة، فلا تسير وتتفق مع النّاس على هذه الأمنية، وحاول ما استطعت أنْ تعمل نفسك مهما حاربتك الظروف، لا أرى مبرّراً لتقاعس الإنسان عن شيءٍ يُحبّه وهو يعلمْ أنّها حياةٌ واحدةٌ فقط! ولعلَّ الخوف الوحيد هنا هو فقدان الإحساس بالزمن، وأنا لا أتكلّم للنّاس فقط، وإنّما أُحدّث نفسي في المقام الأوّل، فالخطاب لنفسي المتقاعسة وللنّاس أيضاُ، فأنا لا أُريد الاتفاق على هذه الأُمنية ولا أريد الوقوف والثبات على بُقعةٍ من حياتي لا أرى فيها شغفي وأحلامي! سأحاول وأحاول، ولنْ أكونَ متسمّراً مُكتفياً بالحديث مع هذا وذاك عمّا فعل غيري! ولنْ أتغنّى فقط بما فعله العُظماء، فجميعنا عظماء بشكلٍ أو بآخر ولكنَّ التسارع يُحْبِط ويكسرْ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.