شعار قسم مدونات

العقاد.. شاهد على عصر لم يعشه

blogs عباس العقاد

قبل ثلاثين عاماً من تأليفه لعبقرية محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في المقدمة كان مشروع الكتاب اقتراحاً في حديث جمعه وأصحابه من كتاب ومؤلفين أجانب، وكان حديثهم يوم ذاك عن الكاتب توماس كاريل الذي عقد فصلاً عن عظمة النبي الكريم إذ يقول العقاد في المقدمة وإنا لنتذكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي إذ برزت من أحد الحاضرين كلمة نابية غضبنا لها واستنكرناها، لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية.

 

كان متحذلقاً يتظاهر بالمعرفة ويحسب التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة، فكان مما قال ذلك المتحذلق شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد بطولة سيف ودماء، احتد النقاش بينهم ورد عليه العقاد ويحك ما سوغ أحد إلينا كما سوغته أنت بهذه المقولة النابية وغضب آخرون وعنفوه لسوء أدبه مع الرسول الكريم، فتساءلوا بعدها ما بالنا نقتنع بتمجيد كاريل لمحمد وهو كاتب لا يعرفه ولا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه.

 

العقاد مات وترك مشروع الدفاع عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وترك شوكة في حلوق ومن يسيئون إليه باسم التسنن او التشيع ويشوهون دينه بالمظاهر والشكليات

ثم أقترح أحدهم على العقاد لماذا لا تضع لقراء العربية كتاباً عن النبي على النمط الحديث، أجاب: يومها أفعل، وأرجو أن يتم عن قريب. لكنه أنجز الكتاب بعد ثلاثين عاماً من طرح الفكرة، الفرق كبير بين الفكرة والتنفيذ، لكنه يثني على أن الثلاثين أضافت إلى معرفته وتجاربه ورصيد خبراته الكثير، التي لولا الثلاثين عاماً لحرم هذا الإنجاز من تلك الخبرة والتراكم. مات العقاد وبقيت آثاره ومؤلفاته وإنجازاته حاضرة تدافع بحيادية عن عظمة الاسلام وعظمة نبيه والخلفاء الراشدين من بعده. غضب من متحذلق يتظاهر بالفلسفة والمعرفة وبعد ثلاثين عاماً يضع عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم.

 

كشاهد على عصر يأتي التطاول على الرسول الأكرم ورقة سياسية تستفز المسلمين وتلهيهم عن دمائهم المسفوحة في جنح او في وضح النهار، عصر فيه التطاول على أبي بكر وعمر وعثمان قربة ودين يختصر أيام الخلفاء في نقطة معتمة فيها الظلم والانحراف واختلال موازين القوى في قريش، ولاية الأدنى مع وجود الأسمى كما يدعون. عصر يلخص الإسلام في حزن متوارث قديم، تشد الرحال إلى الأضرحة وتلطم الخدود وتضرب الصدور وتذرف العيون في سمفونية بكائية لا تنتهي. زمن يتيح لمشاعر حزن على كرماء أفضوا إلى ما قدموا يشرخ إسلامنا وعروبتنا ويريق دمانا. لكنه العقاد لا يغيب عن هذا العصر في عبقريات الخلفاء الاربعة، كتبها بلغة محايدة، تفك الاشتباكات بين نقيضين.

 

العقاد مات وترك مشروع الدفاع عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وترك شوكة في حلوق ومن يسيئون إليه باسم التسنن او التشيع ويشوهون دينه بالمظاهر والشكليات. يقول: عبقرية محمد ليس كتاب سيرة نبوية جديد تضاف إلى السير العربية والإفرنجية التي حفلت بها المكتبة المحمدية، وليس شرحاً للإسلام أو لبعض أحكامه أو دفاعاً أو مجادلة لخصومه، إنما الكتاب تقديراً لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يبث له الحب في قلب كل إنسان وليس في قلب كل مسلم وكفى. محمد عظيم لأنه على خلق عظيم الــ كتبوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم كُثُر ممن يدينون بدينه ومن لا يدين به، وفي زحام المكتبة المحمدية التي تناولت سيرته قديماً وحديثاً ودونت تفاصيل حياته واستلهمت من هديه قيم الخير والجمال ورأته مثلاً أعلى، ومع هذا الزحام في الكتابة عنه ما زالت سيرته خصبة لاكتشاف الجديد فيها.

 

ولأن فطرة الأنسان قائمة على حاجتها للأيمان ليسد جوع أسئلتها عن غايتها في الوجود.. من؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ كنا نحن -المسلمين – محظوظين بعقيدة توحد ملكة الأنسان وروحه على معبود واحد يهتدي إليه بالعقل ويؤيده النقل عقيدة يزيل عنها الشك كل شيء في الوجود، وردد المسلمون جميعهم بقلب واحد رضينا بالله ربا وكان لهذا الرضا أثره في سعادة الأنسان وأمنه واطمئنانه. ولأن الفطرة الإنسانية مجبولة على عشق البطولات والعظماء والمؤثرين والقادة وأصحاب المشاريع العظيمة

 

كنا نحن الأمة المسلمة أكثر الأمم حظاً أن يكون لنا بطلنا ومثلنا الأعلى، والأكثر من ذلك أن تتدخل عناية الله وحكمته في تأديبه وتكريمه وعصمته، فإن تباهت الحضارات القائمة بأقزامها قلنا نحن بمليء أفواهنا محمد مفخرة الإنسانية وتبلى قامة أبطالهم وقاداتهم وتحترق في حدقات عيونهم، وتبقى قامة رسول الله في حنايانا، في حناجرنا، وسنته وهديه تهذب سلوكياتنا وحركاتنا وسكناتنا، وتبقى المآذن تصدح في اليوم الواحد في مواعيد الصلاة أشهد أن محمد رسول الله.

 

ولما كان حنين الفطرة إلى عشق المثل والكمال والسمو، حنينها شيء يدلها ويرشدها ويؤنسها، كنا محظوظين بكتاب خالد يتلى إلى قيام الساعة، كتاب السعادة والأمن والحضارة والسلام، لم تقو قريحة الأنسان أن تقول جملة واحدة تقترب على الأقل من محكم أسلوبه وبيانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.